كانت المقاومة في الضفة الغربية وقطاع غزة تمر بمرحلة ركود في الفترة بين منتصف السبعينات وبداية الثمانينات، وكان الهدوء النسبي واللهاث وراء لقمة العيش هو السمة السائدة، باستثناء عمليات متفرقة ساهمت باستمرار شعلة المقاومة والجهاد.
وكان من ضمن ذلك ما قام به ثلاثة شبان من قرية كوبر شمالي رام الله في مطلع عام 1978م: عمر البرغوثي (أبو عاصف) وشقيقه نائل، وابن عمهما فخري، فقد قام ثلاثتهما بقتل أحد المستوطنين، وسرعان ما ألقي القبض عليهم -كان أولهم (وأصغرهم عمراً): نائل البرغوثي ولهذا هو اليوم أقدم الأسرى وعميدهم- وحكم عليهم بالسجن المؤبد، كان الثلاثة مثلهم مثل أغلب المواطنين الفلسطينيين المحافظين في تلك الأيام من مؤيدي حركة فتح ومناصريها، ومن المتأثرين بالمقاومة المسلحة التي كانت تقودها حركة فتح في تلك الأيام.
سمى عمر البرغوثي ابنه الأكبر عاصف تيمناً بالعاصفة الجناح المسلح لحركة فتح في حينه، وكان ثلاثتهم من المؤمنين بالعمل المقاوم المسلح في وقت كان غيرهم غارقاً في هموم الحياة والسعي خلق الرزق، وكان ثلاثتهم (لفترة من الزمن) من رموز حركة فتح في سجون الاحتلال، إلى حين بدأت حركة فتح تتنازل عن مسيرة المقاومة والكفاح المسلح وتلقي بسلاحها وترفع غصن الزيتون.
عمر البرغوثي "أبو عاصف" أطلق سراحه في صفقة التبادل مع الجبهة الشعبية القيادة العامة عام 1985م، ولعل نوعية الأسرى الذين حرروا في تلك الصفقة مثل الشيخ أحمد ياسين وأبو عاصف ودورهم في الانتفاضة الأولى وما بعدها جعل الصهاينة يندمون شديد الندم على تلك الصفقة، ودفعهم للتشدد في كل الصفقات التالية.
أبو عاصف لم تنته مسيرته المقاومة مع صفقة التبادل، بل بدأت (حتى عندما تركت فتح السلاح وركنت إلى مدريد وأوسلو) فاستمر مؤمناً بالكفاح المسلح والمقاومة والجهاد، وعمل مع يحيى عياش ووفر له المأوى والمساعدة، وعندما سجن عام 2003م كانت تهمته مساعدة خلية عين يبرود القسامية وتزويدها بالسلاح، كما عمل مع المقاومة بدون أي انحياز لتنظيم دون آخر، فقد حرص على أن يكون وحدوياً يعمل مع الكل ما دام الهدف هو محاربة المحتل الصهيوني.
فسجن أبو عاصف مرات عدة في سجون الاحتلال ووصل ما أمضاه في سجون الاحتلال إلى 22 عاماً من سنوات عمره الـ55، وأبو عاصف لمن لا يعرفه كان أسطورة في الصمود بالتحقيق، وكان يرفع معنويات الشباب في زنازين التحقيق بالمسكوبية وكان دائم الترداد على أسماعهم مقولة "المعنويات عالية والمسكوبية واطية"، وكان يرفض الاعتراف أمام المحققين حتى لو كانت أمور يعرفونها تمام المعرفة.
أبو عاصف لم يعرف الانهيار أو الضعف عندما رأى زوجته في زنازين المسكوبية حيث اعتقلها المحققون ليضغطوا عليه وليبتزوه، كما عرف أبناؤه سجون الاحتلال، وكان أول عمل قام به ابنه الثاني عاصم بعد خروجه من سجون الاحتلال قبل أربعة أعوام هو محاولة أسر أحد المستوطنين ليقضي اليوم حكماً بالسجن لمدة 12 عاماً على محاولته تلك.
نائل البرغوثي (أبو النور) ما زال في الأسر المتواصل منذ أكثر من 32 عاماً، يعيش اليوم عند حركة حماس داخل السجن، لكنه مثل شقيقه وحدوي الفكر وصاحب عزيمة متوقدة وقدوة لغيره من الأسرى، وبدلاً من أن يرفع الأسرى معنويات هذا الطود الشامخ بعد أن عاش أكثر سنوات عمره في سجون الاحتلال يعمل هو على رفع معنوياتهم بشكل مستمر، ويتميز أبو النور بميزة لا توجد لدى غيره من الأسرى الفلسطينيين، فأبو النور يرفض أن يشتري أي من احتياجاته من كنتينا السجن ولا أن يحضر أهله له على الزيارة الملابس أو أي من احتياجاته (باستثناء الملابس الداخلية ولسبب بسيط أن ادارة السجن لا تزود الاسرى بها)، ولأبي النور فلسفته الخاصة وهي أن المحتل يجب أن يتحمل مسؤولية الأسير لا أن يستغل احتياجات الأسير ويبتز منه الأموال ويدفعه للحياة على حسابه الخاص.
تصوروا إنساناً يعيش 32 عاماً فقط على الملابس والطعام الذي يقدمه له السجان، أي سجين آخر في العالم يتمنى لو يغير هذا الروتين القاتل، وأبو النور تتاح له الفرصة لكن لديه رسالة ليؤديها، ولديه عزيمة الصخر، ولم يفت في عضده أن أحداً من الأسرى لا يشاركه فكرته ومبدأه هذا، فما دام مقتنعاً ومؤمناً بما يقوم به فهو سعيد ومسرور.
الأسير فخري البرغوثي ما زال يعيش في السجن مع حركة فتح بالرغم من تخلي الحركة عنه، ولا تتذكره إلا عندما تريد المتاجرة بآلامه ومعاناته لتطهر سمعتها التي لطختها ممارسات الأجهزة الأمنية، ربما ما زال يأمل خيراً في أبناء فتح، وربما يأمل أن طول مدة بقائه في حركة فتح تتيح له فرصة التغيير من الداخل، وانضم إليه قبل سنوات قليلة ابنه شادي والمحكوم بالسجن لمدة 29 عاماً.
ومن قبل أبو عاصف وأبو النور كان والدهما المرحوم أبو عمر من المشاركين بثورة عام 1936م وسجنه الأنجليز، لكن كل هذا التاريخ المقاوم لم يشفع لأبي عاصف عند سلطة دايتون، كما أن نفسه الوحدوي لم يعن للسلطة شيئاً، وبالرغم من عمله مع حركة حماس، إلا أنه حرص على أن يحافظ على مسافة متقاربة من جميع الفصائل، وهذا يثبت أن السلطة لا تحارب فقط من تظن بهم "النفس الانقلابي الحمساوي"، بل هي تعتبر أن كل من يمس بالتزاماتها (حسب تعبير عدنان الضميري) تجاه المحتل الصهيوني خطراً يجب وقفه عند حده.
فقامت السلطة باعتقاله قبل حوالي الثلاثة أسابيع وأمضى 15 يوماً في زنازين الوقائي، بدون احترام لسنه ولا احترام لتاريخه، ولا احترام لكونه ابناً سابقاً لحركة فتح، ولا احترام لنفسه الوحدوي، ولا احترام لشقيقه عميد الأسرى ولا ابن عمه عميد أسرى حركة فتح، كلها ذهبت أدراج الرياح فهي لا تعني شيء لأجهزة دايتون – مولر، التي تعتبر أن أرضاء "الجانب الآخر" هو عقيدتها القتالية ورسالتها السامية.
لا ندري ماذا دار في زنازين التحقيق، لكن تهديد شقيقه وابن عمه بالاضراب عن الطعام، والتحركات الواسعة لاطلاق سراح أبو عاصف أحرجت السلطة فلم تجد بداً من اطلاق سراحه الخميس الماضي، ومثلما يحصل في مثل هذه الحالات يتولى المحتل الصهيوني متابعة المهمة، فداهمت قوات الاحتلال منزله في قرية كوبر بنفس اليوم الذي أطلق فيه سراحه، لم يكن أبو عاصف موجوداً في المنزل فقد كان ذهب للإطمئنان على شجر الزيتون التابع للعائلة فقد حان موعد الحصاد وهو في زنازين الوقائي (ونلوم بعدها المستوطنين الذين يمنعون الفلاحين من قطاف زيتونهم)، فعاث جنود الاحتلال خراباً في منزل أبو عاصف وكسروا الأثاث وتركوا له تبليغاً بضرورة مراجعة مخابراتهم.
وقع أبو عاصف في أسر المحتل الصهيوني بعد ذلك بأيام قليلة (الأحد الماضي)، وهو الآن في زنازين التحقيق، وربما كان مشبوحاً في زنازين المسكوبية (فلا أحد يدري مكانه) يسأله المحققون الصهاينة عن ما دار معه في أقبية الوقائي من أجل استكمال استجوابه، ربما تمنع وحدوية أبو عاصف لعن جهاز الأمن الوقائي وكل من ساهم بتسليم معلومات عنه إلى المحتل الصهيوني، لكني متأكد ومتيقن أن القيود التي تلف قدميه ويديه في التحقيق تلعنهم ألف مرة، فهذا رجل قضى أغلب حياته بين زنازين التحقيق وغرف سجون الاحتلال، أفلم يخجل أبناء الوقائي من فعلتهم هذه؟ لماذا يزيدون في معاناة مناضل كبير مثله؟ ألا يكفيه 22 عاماً في السجن؟ أيقبلون أن يفعل بوالد أحدهم مثل هذا؟
أبو عاصف كان ابناً لحركة فتح قبل أن يكون اباً لحركة حماس، وبدل من أن تكرمه حركة فتح وتحتفي به، ها هي تساهم باعتقاله وتسليم المعلومات عنه للمحتل الصهيوني، والله أعلم ما طبيعة المعلومات التي زودوا بها المخابرات الصهيونية والتي دفعت المخابرات لمداهمة منزله بنفس اليوم الذي أفرج عنه وتكسير أثاث منزله وتفتيشه شبراً بشبر، وربما لن نعرف أبداً لأن أبو عاصف عودنا على الصمود في التحقيق وعدم الافصاح عن ما يختزنه صدره من أسرار، ولو كان على حساب حياته ولو كان على حساب حياة أسرته.
من العار أن تتخلى حركة فتح عن مناضليها وتتنكر لهم وتغدر بهم، وفي الوقت الذي ترتكب التجاوزات في الضفة الغربية بحجة الصراع مع حركة حماس، فقصة أبو عاصف وآل البرغوثي لتدل على أن تجاوزات حركة فتح لهي أخطر من ذلك بكثير، إنها تصل لمرحلة العمالة المقنعة (وربما العمالة الصريحة).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق