خرج علينا ياسر عبد ربه قبل أيام بتصريح خلال لقاءٍ مع صحيفة هارتس بأنه لا يمانع بالاعتراف بيهودية الدولة العبرية بعد ترسيم حدود الدولة الفلسطينية، ومثل هذه اللقاءات معتادة بين رموز السلطة والصحيفة الصهيونية يسارية التوجه، فقبل عامين قال سلام فياض في لقاء مع الصحيفة أنه يطالب برفع الحواجز التي لا تخدم أمن الاحتلال، وقال أنه سيوافق على حواجز الاحتلال التي تقدم حماية للمستوطنين والمحتل الصهيوني (فقط يريد إزالة ما لا لزوم له).
في اليوم التالي لتصريح عبد ربه خرج نافياً ما نسب إليه، وقد نشرت وكالة معاً وموقع البي بي سي بالعربية توضيحاً لتصريحاته كما خرج موضحاً على قناة الجزيرة، وليته ما وضح حيث قال أن السلطة مستعدة لبحث أي شيء بعد تحديد حدود الدولة الفلسطينية والتوصل إلى تسوية وأنه سيتم الاعتراف بـ"إسرائيل كما هي"، بمعنى هو لا يرفض مبدأ الاعتراف بيهودية الدولة بل يريد التباحث بشأنها لاحقاً.
أما محمود عباس فقد رد على أسئلة الصحفيين خلال مؤتمر صحفي عقده مع وزيرة الخارجية الفلندية الخميس الماضي بقوله: "موقفنا اليوم أننا معترفون باسرائيل، ولكن إذا أراد الإسرائيليون أن يسموا أنفسهم أي اسم فعليهم أن يخاطبوا الأمم المتحدة، لأن هذا الموضوع ليس من شأننا"، أي أن تسمية الصهاينة لدولتهم بدولة اليهود ليس من شأن السلطة.
قد يقول قائل: "وما أدراك أنه سيقبل بيهودية الدولة عند بحث أمرها في وقت لاحق؟" ببساطة لأن تاريخه وتاريخ سلطته يثبت أنهم خلال السنوات الماضية قد وافقوا عملياً على أي شيء طرحه الصهاينة، فلو أخذنا خارطة الطريق التي وافقت عليها السلطة ووافق عليها الصهاينة مع 14 تحفظاً، الصهاينة لم ينفذوا أي شيء مما التزموا به فيما السلطة نفذت كل شيء، وبعد ما نفذت كل شيء بدأت التفاوض من جديد.
السلطة باختصار عودتنا على الخضوع لكل ما يطرحه الصهاينة، ومن الناحية الأخرى فتهرب عبد ربه وعباس من الرفض الصريح ليهودية الدولة يعني إما أنهما يقران ويعترفان بيهودية الدولة أو أنهما يخافان من رفض يهودية الدولة، وعلى كلا الوجهين النتيجة واحدة: "الخضوع لرغبة الصهاينة بدولة يهودية".
كلا يا ياسر عبد ربه؛ يهودية الدولة العبرية ليست أمراً مطروحاً للنقاش لا اليوم ولا بعد ألف عام، وكلا يا محمود عباس يهودية الكيان المصطنع ليس شأناً صهيونياً داخلياً، هذه تبريرات أقبح من الاعتراف بيهودية الدولة، فاستعداد عبد ربه لنقاش أي شيء يعني استعداده لمناقشة قرار صهيوني بطرد مليون ونصف فلسطيني مستقبلاً، واعتبار محمود عباس أن للصهاينة شؤون داخلية لا ينبغي التدخل فيها يعني حقهم بهدم الأقصى وتهويده بوصفه شأناً داخلياً، وحقهم بتهجير الفلسطينيين المقيمين داخل فلسطين المحتلة بوصفه شأناً داخلياً، ربما يحق له رفض استقبالهم في الضفة الغربية فقط لا غير.
قد يقول قائل: "وما يضير الاعتراف بيهودية الدولة ما دامت السلطة اعترفت بما تسمى إسرائيل؟" في الواقع الاعتراف بالكيان الصهيوني جريمة، والاعتراف به كدولة لليهود جريمة مضاعفة، لأنه في الوقت الذي يتم محاصرة الكيان الصهيوني دولياً وعالمياً بوصفه دولة عنصرية بغيضة يأتي ومن يعتبر عنصرية الصهاينة شأناً داخلياً أو أمراً قابلاً للنقاش، وكأنه يقول لكل من يحارب عنصرية الكيان الصهيوني أنتم مخطئون هذه الدولة لليهود وليست لنا، وبالتالي يضعف موقف كل من يدعم الشعب الفلسطيني ويقوي موقف أنصار الصهيونية في كل مكان بالعالم.
الأخطر من ذلك هو إعطاء الصهاينة المبررات لتهجير الشعب الفلسطيني من داخل الخط الأخضر، واعتبارهم مجرد مقيمين في دولة "اليهود"، وإذا عارض أحد ما التهجير عندما يحصل فعلياً في المستقبل سيقول لهم الصهاينة انتظروا الأمر خاضع للتفاوض مع السلطة ولا داعي لأن تتدخلوا بالمفاوضات بيننا وبينهم ولا أن تكونوا أكثر فلسطينية من الفلسطينيين، ومثلما هو الأمر مع المستوطنات اليوم سينفذ الصهاينة ما يريدون والمفاوضات تسير وتسير وتسير دون أن نحقق أي شيء.
وأذكر هنا بأنه عندما بدأت منظمة التحرير التفاوض عام 1991م كانت الحجة هي وقف الاستيطان وكبح جماح المستوطنات. حسناً تضاعف عدد المستوطنين من يومها أربع مرات تقريباً في الضفة الغربية، ومعدل زيادتهم السكانية تصل إلى 6% سنوياً مقابل 1.8% الزيادة السنوية للصهاينة في الكيان، والاستيطان مستمر ومستمر، والمفاوضات تسير وتتوقف دون أن تنجز السلطة شيئاً.
وبعد فتح يهودية الدولة للنقاش سينفذ الصهاينة ما يريدون، وبنفس المنطق سيتفاوضون وسيتفاوضون وسيتفاوضون فيما الصهاينة يحولون دولتهم إلى دولة يهودية خالصة دون أي معارضة حقيقية؛ مجرد اعتراض خجول، مثل اعتراض عباس وعبد ربه الذين يتهربان من رفض يهودية الدولة بجعلها مسؤولية دولية أو شأناً داخلياً صهيونياً.
فلتكن الأمور واضحة: يهودية الكيان الصهيوني ليس أمراً خاضعاً للنقاش والجدال، بل يجب استغلال المطالب الصهيونية هذه لفضح الكيان ولفتح الملفات المغلقة: ملف اللاجئين وملف من طردوا من أرضهم من أجل إقامة دولة يهودية نقية. فمطالب الصهاينة بدولة لليهود فقط دون غيرهم، وتبرير ذلك لطرد أهل البلاد الأصليين عام 1948م ولطرد ما تبقى منهم مستقبلاً هي فضيحة أخلاقية، ولا يجب تفويتها بتصريحات جبانة تميع القضية الفلسطينية وتقدم الخدمات المجانية للصهاينة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق