ذهب محمود عباس إلى واشنطن ليبدأ سلسلة جديدة من الاجتماعات العبثية مع الصهاينة بعد أشهر من التمنع والممانعة دون أن يستجاب لأي مطلب من مطالبه، متذرعاً بضغوط كبيرة مارسها الأمريكان، وشهدنا إخراجاً مسرحياً في جامعة الدول العربية لعملية الذهاب (وكأنه كان لدى عباس خيارات أخرى)، وقامت الماكنة الإعلامية الفتحاوية بتمرير الإشاعة المعتادة في مثل هذه الحالات أن هنالك أزمة مالية خانقة تعاني منها السلطة حتى تساهم بإقناع قواعد فتح الشعبية بضرورة الذهاب وإلا قطعت الرواتب.
وبعد أن كان شعار العرب "الأرض مقابل االسلام"، أي انسحاب الصهاينة من الأراضي المحتلة عام 1967م مقابل عقد اتفاقيات السلام معهم، تقلصت طموحات السلطة لتصبح أقل من الأرض بكثير، فخارطة الطريق نصت على أن تقوم السلطة بمحاربة المقاومة (محاربة الإرهاب) فيما يجمد الصهاينة الاستيطان تمهيداً لخطوات تالية نحو قيام الدولة الفلسطينية، لكن بعد أن التزمت السلطة بكل ما طلب منها، رفض الصهاينة تطبيق أي شيء.
وكلما دار نقاش حول جدوى استمرار السلطة بالتزاماتها الأمنية خرجت لنا بذريعة أنها على الأقل تضمن تسيير بعض القضايا المعيشية وتدفق الرواتب (وبالمناسبة معظم موازنة السلطة تأتي من الضرائب والجمارك التي يدفعها المواطن الفلسطيني ويحصلها الكيان الصهيوني نيابة عن السلطة)، لتصبح المعادلة ضمان تدفق الرواتب والامتيازات الشخصية مقابل توفير الأمن للصهاينة، الذين لم يعودوا مهتمين بما يسمى "السلام" لأنه يعني تقديم التزامات أكبر مما يقدموه اليوم للسلطة.
وفي ظل رفض الصهاينة الالتزام بأي شيء، وفي ظل تصريح السلطة بأنها ذاهبة لواشنطن مكرهة (مع التزامها المطلق بأمن الصهاينة)، جاءت سلسلة عمليات القسام الأخيرة لتطرح تساؤلاً حول مستقبل المعادلة التي تحكم عمل السلطة ولتعيد تشكيل الوضع القائم في الضفة منذ عام 2007م.
مميزات ودلالات عمليات القسام:
أثبتت عمليات القسام فشل كل إجراءات السلطة الأمنية السابقة واللاحقة، بل وأكثر من ذلك فبعد يوم من تعهد سلام فياض بأن عملية الخليل لن تتكرر جاءت عملية رام الله ومن الواضح أن هنالك ما سيتلوها، فبعد ثلاث سنوات متتالية من الملاحقة الأمنية لنشطاء حماس (العسكريين وغير العسكريين) استطاع القسام الخروج بعمليات احترافية خطط لها بشكل جيد.
ومن الواضح أن تبني العمليات في غزة والضرب بأكثر من مكان في الضفة يدل على وجود جهاز عسكري احترافي وليس مجرد خلية تعمل بمبادرة ذاتية، الأمر الذي يدفعنا للتساؤل عن مدى الضرر الحقيقي الذي ألحقته السلطة وقوات الاحتلال بالجهاز العسكري لحماس في الضفة الغربية.
كما أن استهداف غلاة المستوطنين (من التيار الصهيوني الديني) والذين يعيشون في المستوطنات الداخلية والقريبة من المناطق السكنية الفلسطينية (بعكس المستوطنين العلمانيين والمتدينين -الحريديم الذين يعيشون في غور الأردن ومحيط القدس والمناطق الحدودية) يعتبر خطوة موفقة.
فإن كان استهدافهم متوقعاً وطبيعياً نظراً لكونهم أهدافاً أسهل من غيرهم من الصهاينة، لكنه أيضاً يخدم هدفاً هاماً وهو تعزيز الانقسام بين غلاة المستوطنين وحكومتهم، فالعلاقة أصلاً متوترة بينهما، وغلاة المستوطنين يتهمون حكومة الاحتلال بأنها تضحي بهم ولا تهتم بأمنهم، بل ويتهمون المجتمع الصهيوني بأنه يعتبر دماء سكان "تل أبيب" أغلى من دمائهم، وقد رأينا حالات لاعتداء هذه الفئات من المستوطنين على قوات الاحتلال، بل ووصل بأحدهم لتنفيذ اعتداءات مسلحة ضد صهاينة يساريين ومن يعتبرهم خونة.
وفي المقابل يبادلهم المجتمع الصهيوني نظرة الكراهية، فهذه العمليات تزيد الفجوة لأنها تعبء المستوطنين ضد حكومتهم والتي يتهمونها بدماء من قتلوا في الخليل لأنها رفعت الحواجز في الضفة الغربية، فضلاً عن أن غلاة المستوطنين منبوذين دولياً ولن يكون هنالك تعاطف كبير تعاطف معهم.
تبريرات فتح والسلطة:
بدلاً من أن تستغل السلطة العملية لتقول للأمريكان والصهاينة أن الاستيطان هو سبب المشاكل وسبب التصعيد وبالتالي كان يجب الاستجابة لطلبها بوقف الاستيطان، كان موقفها عكس ذلك تماماً، وبما يضعف من موقف الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية نفسها أمام الرأي العام الدولي، فدافعت عن حق غلاة المستوطنين بالحياة في الضفة الغربية وحقهم في التنكيل بالشعب الفلسطيني دون أن يتصدى لهم أحد.
وللتغطية على موقف السلطة المخزي تحاول ماكنة فتح الإعلامية تعبئة قاعدتها من خلال الزعم بأن عملية حماس هدفها تخريب المفاوضات على السلطة، وكأن تجول غلاة المستوطنين في الضفة أمر طبيعي ومقبول، وبعد أن ركزت الماكنة الاعلامية الفتحاوية خلال الاعوام الثلاثة الماضية على سؤال: "لماذا تجمع حماس السلاح في الضفة الغربية ولا نرى عمليات ضد الاحتلال؟"، لتبرر ملاحقة مجاهدي القسام وحماس في الضفة وتعذيبهم بحثاً عن السلاح، نرى اليوم إدانة واضحة لا لبس فيها لاستخدام السلاح ضد الصهاينة وحتى لو كانوا من غلاة المستوطنين.
وبالرغم من أن سلاح القسام خرج أكثر من مرة خلال الفترة الماضية ضد الاحتلال، إلا أن عمليتي الخليل ورام الله تشكلان جواباً صارخاً في وجه الماكنة الإعلامية الفتحاوية، ودليلاً على أن حماس لو أرادت استخدام السلاح ضد السلطة فقد كانت (وما زالت) تستطيع، فتصفية عشرة مسؤولين في السلطة تحتاج لإمكانيات واستعدادات أقل من عملية واحدة ضد المستوطنين بوزن عملية الخليل.
مفاوضات فاشلة مسبقاً:
أما ذريعة السلطة بأن حماس نفذت العملية نكاية فيها ولكي تضعف موقفها في المفاوضات، فكان من الممكن قبوله لو أنه كان للسلطة موقفاً في المفاوضات، فهي ذهبت للمفاوضات قابلة بكل اشتراطات الصهاينة، ودون أن يقبلوا بالحد الأدنى الذي سبق وأن التزموا به، فتجميد الاستيطان (أو تخفيض وتيرته) كان شكلياً وكان الاستيطان مستمراً مرة بحجة الاستثناءات والاحتياجات السكانية، ومرة بحجة أنها مشاريع بناء سابقة، ومرة يتم البناء سراً، ومرة يقوم غلاة المستوطنين بتحدي القرار علناً لإثبات حقهم في "أرض إسرائيل الكاملة"، وفي كل الأحوال تجميد الاستيطان الشكلي كان سينتهي نهاية الشهر الحالي مع رفض نتنياهو وحكومته تمديد فترة التجميد.
والسلطة التي ذهبت لتورط الشعب الفلسطيني بإتفاقية على غرار اتفاقية أوسلو لا تمثل أحداً ، فلا هي تمثل الأغلبية الانتخابية في المجلس التشريعي ولا هي حتى تمثل منظمة التحرير حيث لم يحصل تصويت على قرار الذهاب في اللجنة التنفيذية للمنظمة، فضلاً عن أن جميع أعضائها الحاليين معينين وليسوا منتخبين، وغالبيتهم لا يمثلون أحزاباً ولا تنظيمات.
وعندما تكون حماس والتيار الإسلامي بكافة توجهاته واليسار الفلسطيني وأقسام من حركة فتح يعارضون هذه المفاوضات العبثية، فمن حقهم جميعاً وقف المهزلة حتى لا يكبل الشعب الفلسطيني بالتزامات مجانية جديدة، فالأمر لا يتعلق بإفشال المفاوضات كعملية انتقامية بل هو تأكيد على خيار الشعب الفلسطيني المتمسك بالمقاومة، ونتساءل بأي حق ينفرد أفراد من تنظيم واحد بقرار يمس مصير الشعب الفلسطيني كله؟
الخلاصة:
تحولت حركة فتح والسلطة الفلسطينية خلال خمس سنوات من حكم محمود عباس وثلاث سنوات من وجود سلام فياض في رئاسة الحكومة إلى مقاولين أمنيين يعملون لحماية الاحتلال مقابل امتيازات وظيفية وشخصية فقط لا غير، وبالتالي فهم آخر من يحق لهم الكلام عن تمثيل الشعب الفلسطيني أو التكلم باسمه أو التفاوض باسمه.
وفي المقابل آن الأوان لاطلاق العنان للعمل المقاوم المسلح في الضفة الغربية، ولتكن البداية استهداف المستوطنين في المناطق الداخلية للضفة ثم الانتقال إلى الأغوار (وأهمية الأغوار للضفة مثل أهمية رفح لقطاع غزة)، واستنزاف المستوطنين من أجل تفريغ هذه المناطق من أي تواجد استيطاني صهيوني على المدى البعيد، وتمهيداً للانتقال إلى مراحل متقدمة من المقاومة.
أما غول السلطة الذي أخاف الناس طوال السنوات الماضية فقد أصبح واضحاً أنه بالرغم من همجية وبطش السلطة فإنها غير قادرة على الحفاظ على أمن الصهاينة، وهذا سيعني مزيداً من التواطؤ والوحشية على المدى القريب، لكن على المدى المتوسط والبعيد فهي تقوض أسس استمراريتها، ومع تزايد العمليات ضد الاحتلال سيبدأ الصهاينة بفقدان الثقة بهذه السلطة والتساؤل عن جدوى دعمها ومساعدتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق