بعيد الغزو الأمريكي للعراق وقف الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش في حاملة الطائرات أبراهام لينكولن ليعلن مزهواً أن "المهمة انتهت – mission accomplished"، زاعماً أن الوضع في العراق أصبح مستتباً للاحتلال الأمريكي، إلا أن الأشهر التالية أثبتت أنه كان متسرعاً للغاية فسرعان ما غرق الجيش الأمريكي بمستنقع المقاومة العراقية، ولم يكن العراق تلك اللقمة السائغة التي ظنها بوش في البداية.
إلا أن عمليات المقاومة العراقية ضد الأمريكان تضاءلت في السنتين الأخيرتين وتقلصت خسائر الأمريكان بشكل كبير، وخصوصاً بعد تشكيل الصحوات، ونتسائل: إذا كانت الخسائر العالية للأمريكان هي ما دفعت أوباما للتعهد بالانسحاب من العراق أثناء حملته الانتخابية فلماذا لم يغير قراره ويقرر البقاء بالعراق بعد تقلص الخسائر وتراجع المقاومة؟ الحاجة لقوات أمريكية في أفغانستان هو جزء من الإجابة، لكن ألا يمكن القول بأن أمريكا حققت بعد سبع سنوات من احتلال العراق جزءاً هاماً من أهدافها، وبالتالي لم يعد هنالك داعي لبقاء أعداد كبيرة من الجيش الأمريكي في العراق؟
أهداف الغزو الأمريكي للعراق:
إذا أردنا تلخيص أسباب الغزو الأمريكي للعراق فيمكن حصرها بثلاثة أهداف عامة: إضعاف العراق وتفتيته بحيث لا يعود قوة إقليمية تهدد الكيان الصهيوني (وهذا هدف صهيوني بالأصل أكثر منه هدفاً أمريكياً)، وإيجاد موطئ قدم لقواعد عسكرية أمريكية، ولاستغلال النفط وما يمكن أن يعود به من عوائد مالية تحرك الاقتصاد الأمريكي؛ وأمريكا تتميز عن الاستعمار الأوروبي القديم بأنها لا تهتم بأن تكون السيطرة المباشرة لها، يكفيها أن تحقق أهدافها التي تسعى لتحقيقها.
وإذا تكلمنا عن النفط فصحيح أنه رسمياً ملك للعراق والعراقيين، وأمواله تنهب وتبدد بأيدٍ عراقية، وضاعت مليارات الدولارات كانت مخصصة لقطاع الطاقة والكهرباء العراقي في كواليس الحكومة والدولة العراقية (وليس الأمريكية)، إلا أن الشركات الأمريكية ضمنت حصتها الكبيرة في السوق العراقية (النفطية وغير النفطية) وذلك لم يكن لولا يد الحكومة الأمريكية الخفية.
أما عند الكلام عن القواعد العسكرية الأمريكية فبعد سحب ما قيل أنها القوات الأمريكية المقاتلة، بقي في العراق حوالي خمسين ألف جندي أمريكي، يقال أنهم لتدريب الجيش العراقي وإسناده، بينما في الحقيقة التدريب والإسناد لا يحتاج عشر هذا العدد، فالقواعد الأمريكية ما زالت موجودة، ولا يبدو أن هنالك خطر يتهددها على المدى المنظور، وخصوصاً مع انخفاض وتيرة العمليات العسكرية للمقاومة العراقية ضد الأمريكان، صحيح أن هنالك اتفاق لخروج كل القوات الأمريكية مع نهاية العام القادم، لكن هنالك بند في الاتفاقية التي نظمت الانسحاب الأمريكي تنص على أنه يمكن التمديد للقوات الأمريكية بطلب من الحكومة العراقية، وهذا وارد في ظل عراق مفتت وضعيف.
لربما أهم هدف بالنسبة للأمريكان والصهاينة كان تفتيت العراق وإضعافه بشكل كبير، وحسب ما نراه اليوم هذا أكثر هدف نجحوا في إحرازه، لدرجة أنه وبسبب الوضع العراقي الداخلي ووجود دولة عراقية شبه فاشلة وتخوف كل طائفة من الأخرى وكل تيار من الآخر، يوجد في العراق من يطالب بعدم انسحاب الأمريكان و عدم تركه يغرق في الفوضى، وهذا يعني بالضرورة ديمومة القواعد العسكرية الأمريكية وضمان تحقيق الهدف الثاني لفترات زمنية أطول.
إغراق العراق في الفوضى جزء من المخطط الأصلي:
وكان الأمريكان والصهاينة لعبوا على التناقضات العراقية الداخلية منذ حرب الخليج الأولى، عندما فرضت مناطق حظر الطيران وحماية الشمال "الكردي" والجنوب "الشيعي"، وبدأت مراكز الأبحاث الأمريكية والصهيونية تبشر بأن العراق ليس دولة موحدة ولا يمكن لمكوناته المختلفة أن تعيش بسلام ووئام (بالرغم من أنها كانت كذلك طوال الخمسمائة عام الماضية)، وأنه لا بديل عن تقسيم العراق إلى ثلاث دول.
وقامت بتغذية المشاعر الانقسامية داخل المجتمع العراقي، بحيث أنه وعند احتلال العراق عام 2003م كان الوضع مهيئاً لتجزئة المجتمع العراقي وبالتالي إضعاف الكيان العراقي والدولة العراقية، وبدأت الاستقطابات الطائفية وأصبح الانتماء الطائفي هو المقدم على أي انتماء آخر، وكاد العراق يغرق في حرب أهلية طائفية دامية في عامي 2006م و2007م، ووصلنا إلى مرحلة فقدت كل مكونات العراق ثقتها ببعضها البعض.
ومثل كل الدول الاستعمارية تستغل أمريكا هذه التناقضات لتقوي طائفة ضد الأخرى، ليس حباً لها أو إحقاقاً لحق موهوم، وإنما إدامة لصراع داخلي يضعف الكل في مواجهة المستعمر بحيث يضطر الجميع إلى اللجوء لهذا المستعمر وطلب الحماية منه في وجه أطراف الصراع الداخلي الأخرى.
القابلية للاستعمار والقابلية للانقسام:
وكان المفكر الجزائري مالك بن نبي قد كتب في بدايات القرن الماضي عن "قابلية المجتمعات الإسلامية للاستعمار" وهو ما سهل على الدول الأوروبية استعمار بلادنا الإسلامية بالرغم من أن هذه الدول لا عديد جيوش أكبر مما لدى مجتمعاتنا الإسلامية، لكنها استغلت الجهل والتخلف في مجتمعاتنا (لدى العامة والطبقة السياسية على حد سواء) لتحكم من قبضتها وفق سياسة "فرق تسد".
فقد كانت أغلب جيوش الدول الاستعمارية مكونة من جنود من البلدان المستعمرة، ولكي تضمن ولاء الجنود وعدم تمردهم كانت ترسلهم للخدمة في مناطق غير بلدانهم الأصلية، فكان ابن السنغال يقمع الشعب الجزائري، وابن الجزائر يحارب في أوروبا ضد ألمانيا النازية وابن المغرب يخدم في الهند الصينية وابن الهند الصينية يخدم في السنغال، وهكذا. هو يكره المستعمر وما يفعله في بلده لكن لا مشكلة لديه أن يساعد المستعمر في بلد آخر وقمع شعب آخر مقابل مرتب يتلقاه آخر الشهر.
ويبدو أن القابلية للاستعمار ما زالت منتشرة في بلادنا الإسلامية لحد اليوم وبأشكال متجددة، فالكل يصبح بشكل أو بآخر جزءاً من اللعبة الأمريكية، ونخدم بسرور القضايا الأمريكية من أجل تحقيق مكاسب حزبية أو طائفية ضيقة، دون أن نهتم إن كان فعلنا هذا سبباً في تقوية الاستعمار الأمريكي وإضعاف أمتنا بشكل عام، وهذا لا ينطبق على العراق فحسب بل على أغلب المنطقة العربية إلا ما رحم ربي.
واستهداف الصهاينة للعراق وتحريضهم للأمريكان على تقسيمه وتفتيته لم يكن بسبب صدام أو وجود أسلحة كيماوية، كما يظن البعض، بل هي سياسة صهيونية ثابتة تريد إضعاف كل المحيط العربي والإسلامي وصولاً إلى المغرب في الغرب والباكستان في الشرق، الكيان الصهيوني يريد فسيفساء من دول صغيرة متناثرة ومتباغضة يكون هو المركز الذي يوجه الكل والذي يلجأ إليه الكل من أجل حل مشاكلهم الداخلية أو مع جيرانهم.
ما هو الحل في العراق؟
يبقى تحقيق الأمريكان والصهاينة لأهدافهم في العراق رهناً بالقوى السياسية العراقية بمختلف أطيافها، ويجب على الجميع أن يدرك أنه لا يمكن لطائفة دون أخرى أن تستفرد بحكم العراق، كما أن ديموقراطية الطوائف التي طبخت في الكيان الصهيوني ومعاهد اليمين المحافظ الأمريكي لا تصلح للعراق.
أما إن بقي حساب الطائفة وحساب العشيرة وحساب المواقع والحصص والمحاصصة وكم وزير كسبنا وكم محافظ خسرنا هو المهيمن، وما دامت بعض القوى السياسية تحلم بأنها تستطيع اختطاف العراق لصالح طائفة دون غيرها، فسيبقى العراق يدور في دوامة الصراع الداخلي وبالتالي خدمة المخطط الأمريكي وحماية أمن الكيان الصهيوني حتى لو كانت هذه القوى تلعن أمريكا والكيان مليون مرة كل صباح ومساء.
يجب أن يدرك الجميع بأن الهدف الأمريكي (والصهيوني) هو عراق مجزء وضعيف ومنشغل بصراعاته الداخلية، فحتى لو انسحب الأمريكان بشكل كامل في وقت ينشغل العراقيون بوضعهم الداخلي المفتت وبصراعاتهم على بقايا الدولة العراقية، فسيحق لبوش أن يقول وبكل "فخر" أن المهمة انتهت، فليس مهماً أن يرفرف العلم الأمريكي وسط بغداد ولا أن تفتح سفارة صهيونية في المنطقة الخضراء، يكفيهم أن يكون عراقاً متصارعاً فيما بينه غير قادر على التعايش مع بعضه البعض.
إذا كانت مهمة قوى المقاومة العراقية والقوى السياسية الوطنية والحية هو إزالة الاحتلال الأمريكي وطرد قواته من أرض العراق، فالمهمة الأخطر والأهم اليوم هو توحيد المجتمع العراق وإخراجه من دوامة التشظي والتفتت المستمر، والوصول إلى مصالحة حقيقية بين جميع قوى المجتمع العراقي وبدون استثناءات مهما كانت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق