كانت مواجهة عابرة بين الجيش اللبناني وجيش الاحتلال الصهيوني بداية الشهر الحالي، لكنها كشفت عن وجه جديد للأخفاق الصهيوني في الجبهة اللبنانية، فالقصة ليست شجرة أراد الاحتلال إزالتها أو مجرد اعتداء جديد على أرض عربية، وبعيداً عن تفاصيل الخلاف الذي فجر المواجهة والتي نقلت لنا الصحافة صوراً متناقضة عنها، ففي حين قالت قوات اليونفيل أن الجيش الصهيوني كان يعمل داخل حدود الكيان، نشرت الصحافة صورة لرافعة صهيونية امتد جزء منها إلى داخل الحدود اللبنانية، فيما صرح ضباط بالجيش اللبناني أن الصهاينة دخلوا منطقة متنازع عليها (حسب الخط الأزرق هي داخل حدود الكيان لكن لبنان يعتبرها داخل الحدود اللبنانية).
لكن في النهاية تبقى هذه تفاصيل والصهاينة اعتادوا اختراق الحدود اللبنانية جواً وبراً وبحراً منذ سنوات طويلة، والاعتداءات المستمرة أصبحت روتيناً ليس فقط في لبنان أو غزة أو الضفة الغربية، بل حتى على الحدود المصرية يقتل الصهاينة بين الحين والآخر رجال شرطة أو مواطنين مصريين عن طريق "الخطأ" دون مجرد أدانة من الدولة المصرية.
إذن أين يكمن الإخفاق الصهيوني؟ لنعد بالتاريخ إلى عام 2006م فنشر الجيش اللبناني كان مطلباً صهيونياً، وذلك لم يكن حباً في لبنان بل لوجود تصور صهيوني بأن هذا الجيش سيعمل على حراسة الحدود مع الكيان و"المساعدة" في استقرار الحدود، مثلما تعود الصهاينة مع الدول العربية المجاورة؛ وقد رأينا فزع الجميع عندما انطلقت صواريخ كاتيوشا من سيناء باتجاه إيلات وكأن المستهدف هو مصر وليس إيلات، وحتى الأردن الذي قتل أحد مواطنيه بسبب أحد الصواريخ التي ضلت طريقها ووقعت في أراضيه لم يكن باستنفار وعصبية النظام المصري، لأنه ببساطة لم يحرج أمام الصهاينة.
وبعد أن كان الصهاينة يفضلون (في بدايات إنشاء كيانهم) الاعتماد على ذراعهم الضاربة و"اليد الطويلة لجيش الدفاع" من أجل تأمين حدودهم وردع المحيط العربي، بدأوا (ومنذ حرب رمضان عام 1973م) الاعتماد على تحييد أكبر قدر ممكن من أعداءهم بل وتسخير جزء من محيطهم العربي ليقوم بالمهمات القذرة نيابة عنهم، فكانت معاهدة كامب ديفيد البداية، ودفع الصهاينة حينها ثمناً مرتفعاً بعض الشيء نظير تحييد مصر وجعلها سابقة ليلحق بها باقي المحيط العربي، ثم كان تشكيل مليشيا جيش لبنان الجنوبي ثم قدوم السلطة الفلسطينية.
فاستراتيجية عمل الصهاينة قائمة على استخدام القوة المفرطة لترويض العرب وتدجينهم وتحويلهم إلى حرس حدود لهم، وهذا ما فعلوه مع السلطة خلال انتفاضة الأقصى، من استهداف الشرطة التابعة للسلطة حتى لو لم تكن مشاركة في العمل المقاوم المسلح لم يبلغ الأمر ذروته خلال حصار ياسر عرفات، واليوم نرى النتائج على أرض الواقع فانتشار شرطة السلطة في أي منطقة يعني تكبيل المقاومة وضمان أمن الاحتلال الصهيوني، لأن الصهاينة زرعوا في وعي السلطة ومسؤوليها بأن المساس بأمن الصهاينة سيجعلهم يدفعون ثمناً باهظاً جداً مثلما دفعه ياسر عرفات في السابق.
وكان من المفترض أن يكون تواجد الجيش اللبناني في جنوب لبنان مجرد استكمال للسلسلة، لكن لطالما اشتكى الصهاينة من عدم قيامه بالدور المطلوب منه (قمع المقاومة)، لتأتي المواجهة الأخيرة لتكشف مدى فشل الصهاينة بمهمة تدجين الجيش اللبناني، وإذا نظرنا للصورة الأكبر نرى أن هنالك فشلاً أكبر بتدجين النظام السياسي اللبناني فبعد أن راهن الصهاينة على تقسيم الساحة اللبنانية وإشغال اللبنانيين والمقاومة اللبنانية بصراع داخلي لا ينتهي، حصلت سلسلة مصالحات وتقارب داخلي لبناني أفشل وإلى حد كبير المساعي الصهيونية.
حاول الصهاينة التقليل من أهمية ما حصل معهم في جنوب لبنان وتصويره على أنه اختراق من حزب الله للجيش اللبناني، لأن المهم لدى الصهاينة أن لا يكون هذا نهجاً لدى الجيش اللبناني، وعن طريق الترويض (من خلال الرد العسكري العنيف) وعن طريق الإيحاء (من خلال اتهام حزب الله) يريد الصهاينة ترويض الجيش اللبناني والحكومة اللبنانية وإيصال رسالة لهم "بأن هذه آخر مرة يحصل من جانبكم هذا التجاوز".
رد الفعل على الجانب اللبناني لحد الآن في ظاهره إيجابي ويظهر أن الأمور لا تسير بما تشتهيه السفن الصهيونية، ابتداء من أقوال الرئيس اللبناني ميشيل سليمان التي طالب فيها الجيش اللبناني بالدفاع عن سيادة البلد مهما كان الثمن، ووجود تقبل في الرأي العام اللبناني وداخل المؤسسة اللبنانية لفكرة قيام جنود لبنانيين مهاجمة جنود الاحتلال – لأنه وبكل أسف أصبحت ثقافية عربية استنكار كل من يهاجم الاحتلال بحجة أنه يريد توريط البلاد والعباد، فهذه قفزة نوعية إن جاز التعبير، وأثبتت المواجهة أن العقيدة التي تشكل بها الجيش اللبناني بعد اتفاقية الطائف والقائمة على أن العدو هو الكيان الصهيوني قادرة على صنع جيش وطني وصلب ورأينا كيف سقط شهداء من كافة الطوائف في المواجهة.
لكن الأهم من كل ذلك أمرين: توجه الدولة اللبنانية لفتح حسابات مصرفية من أجل جمع التبرعات للجيش اللبناني، الأمر الذي يشير إلى رفض الحكومة الللبنانية الارتهان إلى المساعدات العسكرية الغربية، والتي يوجد تهديدات جدية بقطعها، لأن الجيش اللبناني لم يلتزم بالدور المرسوم له، وهو حراسة حدود الكيان. الأمر الآخر هو محدودية الرد الصهيوني فالصهاينة اكتفوا برد موضعي ولم يجرأوا على التصعيد أكثر بالرغم من عظم الخسارة، لأن الأمر يعني حرباً أو مواجهة أوسع نطاقاً لا يقدر الصهاينة على دفع ثمنها، وهي أمور مجتمعة تقف عقبة أمام "كي الوعي" اللبناني (وهو المصطلح الذي يستخدمه الصهاينة).
فهل يكون الجيش اللبناني والنظام اللبناني من القوة بحيث يستمروا على طريق تحدي الكيان الصهيوني وإفشال مخططات الصهاينة؟ وهل يمكن أن يكون نموذج الجيش اللبناني قدوة لغيره من الدول العربية؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق