كان متوقعاً منذ حرد السلطة عن التفاوض مع حكومة الاحتلال أنها ستعود في نهاية المطاف وتجلس معه، دون أن تحقق أي شيء من مطالبها، فهذا هو ديدنها منذ أيام منظمة التحرير ومفاوضات مدريد، وهي تقدم التنازل تلو التنازل في مسيرة امتدت لعشرين عاماً دون أن تأخذ شيئاً في المقابل.
وجاءت خطوة لجنة المتابعة العربية بتفويض محمود عباس بالعودة إلى المفاوضات المباشرة لتكون امتداداً طبيعياً لمسيرة السنوات العشرين الماضية، فإن فشلت المفاوضات باستعادة حقوق الشعب الفلسطيني فالرد يكون من خلال المزيد من المفاوضات والمزيد من احراج المحتل الصهيوني عبر تقديم المزيد من التنازلات ومن خلال المزيد من الجلسات التفاوضية.
وبما أن الحياة مفاوضات فقد نسينا ونسي مفاوضوا السلطة لماذا يفاوضون وعلى ماذا يتباحثون، وقد روى أدوار سعيد قصص مضحكة مبكية عن المفاوض الفلسطيني في كتابه "أوسلو: سلام بلا أرض"، فهو يذهب إلى جلسات التفاوض بدون تحضير ولا أوراق ولا وثائق ولا مقترحات، فقط ينتظر ما يطرحه الصهاينة من مقترحات ليقبل بها إن كانت تبدو مناسبة، أو يرفضها إن كانت تبدو غير مناسبة – طبعاً ليعود ويقبل بها فيما بعد، بل وقد تصبح مطلباً فلسطينياً.
وهنا نأتي للنصيحة الأولى لمفاوضي السلطة ومسؤوليها: لا ترفضوا شيئاً يعرضه الأمريكان والصهاينة، لأنه كل مرة ترفضون عرضهم تتراجعوا لتقبلوا بما هو أدنى منه، ما دمتم تفتقدون الشجاعة لرفض العروض السيئة، وما دمتم لا تجرؤون على الوصول لمرحلة الصدام، فلماذا تكذبون على أنفسكم وعلينا وعلى العالم؟ ما فائدة الرفض اليوم وقبول نفس الشيء بعد أسبوع أو شهر أو شهرين؟ ودون مقابل طبعاً – معاذ الله أن يكون هنالك مقابل، وصاحب كتاب الحياة مفاوضات يحرص دوماً على التوضيح بأن السلطة لا تضع شروطاً على المحتل، فقط تطالب بدون شروط.
النصيحة الثانية التي ارجو أن تدرسها السلطة بعناية وهي توظيف صهاينة ومسؤولين من الكيان الصهيوني في وفد السلطة المفاوض، لأنه ثبت أن المفاوضات تجري حقيقة في الأروقة السياسية الصهيونية بين الأحزاب الصهيونية وبين حكومة الاحتلال والحكومة الأمريكية، والسلطة لا خيار لها سوى الأخذ بما يعرض عليها برضاها أو بدون رضاها؛ ونسمع هذه الأيام عن ضغوط أمريكية "هائلة" على السلطة من أجل العودة للتفاوض المباشر.
فما دامت نتائج المفاوضات تحسم في الساحة الصهيونية لم لا تستخدم السلطة مفاوضين صهاينة؟ لربما حصلوا على شيء مهم، فالتفاوض بعد اتخاذ القرار لا معنى له، يجب أن يكون هناك ممثلاً عن السلطة خلال عملية اتخاذ القرار، لربما كان من المناسب استخدام حاييم رمون الذي نقلت تقارير صحفية أنه كان يسدي النصائح التفاوضية لصائب عريقات فيما كانت سلطات الاحتلال تهدم قرية العراقيب في صحراء النقب وتشرد أهلها.
وربما كان من الأجدر أن تستخدم كتاباً صحفيين صهاينة متخصصين في الدفاع عن حقوق الإنسان أمثال عميرة هس أو عكيفا ألدار، وعندي ما يشبه اليقين أنهم قادرون على تحصيل حقوق أكثر مما يحصلها كبير المفاوضين وهواة التفاوض السلطويين، فعلى الأقل هم أكثر تنظيماً وترتيباً ويقومون بإعداد "فروضهم المنزلية" كما يقال، ولا يذهبون للمفاوضات خاليي الوفاض.
النصيحة الثالثة والأخيرة هي أن لا يستخف محمود عباس أو مسؤولي السلطة بعقول الناس، فقد نقل عن محمود عباس قوله أنه في نهاية المطاف يجب أن نجلس مباشرة مع "الإسرائيليين"، حسناً كلنا يعلم ذلك من الأول، لكن أنت قاطعتهم وقاطعت المفاوضات المباشرة لأنه لك مطالب محددة تريد تحقيقها، هل حققتها؟ يا سيد محمود عباس إن تغييبك للمجلس التشريعي واختطافك لمنظمة التحرير لا يخولك أن تفاوض بدون رقيب ولا حسيب.
عندما توليت الرئاسة طالبت بتطبيق خارطة الطريق، وقبلت بأن تبدأ السلطة بتطبيق التزاماتها وأخذت ضمانات من الأمريكان بأن الصهاينة لاحقاً سيطبقوا التزاماتهم، وخلال السنوات الأربع الماضية طبقت التزاماتك بحذافيرها، وكدر عليك صفو تطبيقها فوز حماس بانتخابات التشريعي ومشاركتها إياك بالحكم، لكن بعد الحسم وقدوم سلام فياض استتب الأمر وحاربت "الإرهاب" وقدمت كل الالتزامات المطلوبة وغير المطلوبة.
وماذا كانت النتيجة؟ بدأ أولمرت بالمماطلة ولم يقدم أي شيء فلا استيطان جمد ولا دولة فلسطينية أعلن عنها، ويومها قيل لماذا تشغلون أنفسكم بالمفاوضات المرحلية لنقفز معاً إلى المفاوضات النهائية فهي أهم وانجازاتها أكبر، وبعد عدة جولات مع حكومة أولمرت تخللها العدوان الصهيوني على غزة ذهب أولمرت وجاء نتنياهو.
ورفض نتنياهو الالتزام بخطة الطريق أو بمفاوضات الوضع النهائي، قبل بتجميد شكلي ولمدة محدودة للبناء في بعض المستوطنات وليس كلها، طبعاً لا يوجد طريقة موثوقة للتأكد، فمن يخبرنا دوماً بنشاط البناء في المستوطنات هي جماعات يسارية صهيونية معارضة للحكومة (أظن الآن عرفتم لماذا نصحت السلطة بتطعيم وفدها المفاوض بصهاينة يساريين)، فلا آلية للمتابعة ولا ما يحزنون، نتنياهو قال أنه خفف من وتيرة الاستيطان "وهو وأمانته"، وبعدها قرر أنه لن يلتزم.
ويريد نتنياهو الآن مفاوضة السلطة من جديد على أمور مفروض أن الصهاينة قدموها لقاء ما أتفق عليه سابقاً في خارطة الطريق، ولهذا حردت السلطة وقالت لن أفاوض، قبل أن تنزل أول خطوة وتقبل بالمفاوضات غير المباشرة، ثم الآن يطلع علينا محمود عباس ليقول لنا في النهاية سنجلس مع "الإسرائيليين"، لكن حسب معاييرك وما ألزمت به نفسك يا محمود عباس هذا لم يكن متفقاً عليه من البداية.
لذا وباختصار ننصح السلطة بأن تكف عن التلاعب بالألفاظ والتذاكي المفضوح، وليكونوا صريحين مرة واحدة وليقولوا بأنهم رهائن لدى الاحتلال، وأن الراتب أهم لديهم من القدس والأقصى وفلسطين، فكل الأمور مكشوفة وأخذتم بدل الفرصة ألف فرصة ولم تستفيدوا منها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق