جاء الإعلان عن المصالحة بين فتح وحماس مفاجئاً لأغلب الناس، ليتوج محادثات سرية وسريعة أجريت بعد 4 سنوات سادها الانقسام وشلل الحياة السياسية الفلسطينية والفشل المتتالي في الوصول إلى اتفاق بين أكبر وأهم تنظيمين على الساحة الفلسطينية.
وفي ظل فشل اتفاق مكة والتاريخ الطويل نسبياً للصراع بين الحركتين فالكثيرون يشككون بقدرة الحركتين على النجاح وخاصة في ظل تزايد ضغوط الاحتلال الصهيوني على السلطة الفلسطينية حيث قال نتنياهو بكل صراحة "على السلطة الاختيار بين السلام معنا وبين السلام مع حماس"، وبدأ من يوم أمس الأحد بإجراءاته العملية عندما جمد نقل أموال الضرائب إلى السلطة وهي التي تشكل غالبية ميزانيتها المالية.
فهل يمكن الوصول إلى الطرف الآخر من النفق؟ هل تستطيع السلطة الوقوف بوجه الكيان الصهيوني هذه المرة وترفض الخضوع للابتزاز؟ هل يمكن القول أن الأمر مختلف هذه المرة؟ أم سيتكرر نفس سيناريو عام 2007م وما بعده ونعود إلى المربع الأول كما كان يحصل دوماً؟
كيف أنجزت المصالحة بهذه السرعة:
ما تم التوصل إليه في القاهرة يوم الأربعاء الماضي هو ما كان عالقاً طوال أشهر طويلة، بسبب رفض حماس التوقيع على ما سميت بالورقة المصرية وإصرارها على كتابة ملحق يوضح عدداً من النقاط الغامضة التي وردت في الورقة المصرية، قابله رفض مصري (في عهد مبارك) وفتحاوي لأي نقاش بخصوص الورقة، حيث كانوا يطالبون بالتوقيع على الورقة كما هي.
الانفراج جاء بعد سقوط نظام مبارك ومن الواضح أن كلاً من أحمد أبو الغيط وعمر سليمان كانا يتحملان مسؤولية الجمود طوال الفترة الماضية بحيث حلت المشكلة وكتبت التوضيحات التي طلبتها بمجرد ذهاب الرجلين وتغير النظام.
إلا أن هنالك متغيرات عديدة أخرى دفعت بالمصالحة قدماً، أهمها وصول قطبي الساحة السياسية الفلسطينية إلى نتيجة أنه لا يمكن لأي منهما إقصاء الآخر أو الانتصار عليه. بالإضافة إلى جمود العملية السياسية بين الكيان الصهيوني والسلطة وعدم تقدمها بحيث لم يعد هنالك شيء يمكن أن تحصل عليه السلطة من خلال التفاوض مع الصهاينة بعد إغلاق جميع الأبواب بما فيه تجميد الاستيطان.
أما حركة حماس فيبدو أن وضعها الصعب للغاية في الضفة الغربية والذي يتفاقم يوماً بعد يوم دفعها لاقتناص الفرصة، بالإضافة إلى ما يعنيه تغير النظام المصري من فتح آفاق جديدة بالنسبة لغزة سواء على صعيد الحصار أو التنمية، بحيث تخرج حماس من دوامة الاستهداف المتتابع في الضفة، والشلل الاقتصادي والتنموي في غزة.
وهنالك عوامل أخرى أقل أهمية مثل إقصاء محمد دحلان والتيار الموالي له من مؤسسات السلطة في الضفة الغربية، والكثير منهم هم من الضباط الهاربين من غزة بعد الحسم والذين كانوا يشكلون أحد عوامل التحريض وتعطيل محاولات المصالحة بين الطرفين.
المخاطر التي تواجه المصالحة:
وتعتبر ردة فعل حكومة الاحتلال السريعة والقوية أكبر المخاطر التي تقف أمام المصالحة، وخصوصاً أنها بدأت بخطوات متسارعة ابتداء من إعلانها تجميد العملية السياسية مع السلطة، والتي تلتها مباشرة خطوة تجميد نقل أموال الضرائب إلى السلطة وهو ما سيكون عامل ضغط كبير على حركة فتح، وهي خطوة كانت أحد أهم الأسباب التي أدت لفشل حكومة إسماعيل هنية عام2006م وصولاً إلى أحداث الحسم والانقسام.
لكن ما غاب عن الصهاينة أن فتح عام 2006م استخدمت الأموال ذريعة للتخريب على حماس، ظناً منها أنها تستطيع الإطاحة بها، فالدافعية الذاتية كانت موجودة وقتها عند حركة فتح، ولم تكن مجرد استجابة أوتوماتيكية للضغوط الصهيونية، وهذا العامل مفقود اليوم وغير موجود.
كما أن النظام المصري الجديد يمكن أن يوفر غطاءً عربياً ودولياً (بالتعاون مع تركيا) للتغطية على موقف السلطة ودعمها، فنحن في عام 2011م ولسنا في عام 2006م ولم تعد أمريكا هي الآمر الناهي، وقد رأينا الأداء الأمريكي في التعامل مع الثورات العربية حيث كان عبارة عن سلسلة من ردات الفعل بدلاً من أن يكون فاعلاً.
أمام السلطة إمكانيات أفضل لمواجهة الضغط الصهيوني والأمريكي، لكن إلى أي مدى سيذهب الصهاينة؟ هم معروفين بغرورهم وغطرستهم وقناعتهم بأنه لا يمكن هزيمتهم ولا كسرهم، فهل سيدفعهم غرورهم إلى التصعيد ضد السلطة حتى أقصى درجة؟ وهل سنجد اللحظة التي تنكسر عندها السلطة؟ أم أن غرورهم سيدفعهم للقبول بالأمر الواقع على اعتبار أنه مهما حصل "فدولة إسرائيل يدها طائلة وتستطيع ردع أعدائها"، وهو المبرر الذي تسوقه حكومة الاحتلال أمام كل تنازل تقدمه.
هذه أمور من الصعب التكهن بها فنحن أمام وضع فريد لا يمكن مقارنته بما سبق، لكن الثابت أن الصهاينة لن يسكتوا بسهولة ويجب على السلطة وعلى المنظومة العربية أن يهيئوا أنفسهم لمعركة سياسية قاسية ضد الاحتلال.
كما يتوقع أن تسعى بعض القوى داخل الأجهزة الأمنية بالضفة لإفشال المصالحة عبر تصعيد الاعتقالات والاستدعاءات ضد حركة حماس، تحت مسمى "منع عودة مليشيا حماس إلى الضفة"، وهي ممارسات كانت تقوم بها كلما اقتربت الأمور من التوصل إلى اتفاق بين الطرفين، وفي حين أن التوصل الفجائي للاتفاقية كان وقعه مثل الصاعقة على هذه القوى، لكن هذا لا يعني أنها ستسكت بالضرورة.
وتبقى الحسابات الضيقة حول المواقع والمناصب والأسماء والمسميات عقبات متوقعة قد تفجر الأمور، إلا أن دروس الماضي يفترض أنها علمت الطرفين أنه لا يجوز لمثل هذه العقبات أن تقف في طريق المصالحة، وستكون جريمة لو تفجرت الأمور بسبب مدير عام أو كوته هنا أو هناك.
ما المطلوب حتى تنجح المصالحة:
ليس المطلوب توحد حماس وفتح أو أن يتبنيا برنامجاً واحداً، فالمصالحة تعني أن نجد طريقة للتعايش بين الطرفين داخل مجتمع فلسطيني واحد بدون اقتتال أو احتكام للسلاح والقوة، مثلما يتعايش اليوم في تركيا العلمانيون والإسلاميون تحت نفس النظام وبدون أي توافق بنفس الوقت، وهذا هو الوضع الطبيعي لمجتمع سياسي تعددي حقيقي.
يوجد أمور يجب الانتباه لها حتى تنجح المصالحة:
1- توفير غطاء عربي وإسلامي للسلطة الفلسطينية لكي تكون قادرة على الصمود أمام ضغوط الاحتلال الصهيوني، والتي لن تتوقف عند تجميد الأموال ولا يجوز الاستهانة بها، وفي المقابل لا يجب الاستسلام لها والاستهانة بما نمتلك من إمكانيات. ويمكن لكل من تركيا ومصر لعب دور محوري في تثبيت وتقوية موقف السلطة.
2- يجب أن تراعي حماس موقف السلطة الصعب في الضفة، صحيح أن لها مطالب محقة تتعلق بالإفراج عن المعتقلين السياسيين وعودة المفصولين والاندماج بالأجهزة الأمنية، لكن حجم الضغوط الصهيونية قد يمنع تحقيق كل هذه الأمور مرة واحدة، وخاصة على مستوى الاندماج بالأجهزة الأمنية. لذا يمكن لحماس أن تراقب الوضع في الضفة وتقيس إن كان هنالك تحسناً ملموساً أو لا، مع وجود هامش ما لمراعاة موقف السلطة.
3- يجب الحذر من مصالحة على طريقة كردستان العراق، حيث يقتسم حزبا الطالباني والبرزاني الإقليم كأنه إقطاعيات وغنائم ويقوم كل منهما بحكم جزئه وكأنه مزرعة خاصة. نريد سلطة تمثل الشعب الفلسطيني كله، والتوظيف فيها على أساس حيادي وليس كوتات حزبية تقود إلى أجواء تنافس مرضية تجعل عودة الانقسام شبحاً يخيم علينا بشكل دائم.
4- من الضروري أن يقوم محمود عباس بكبح أجهزته الأمنية، وخاصة القوى التي ترى بأن المصالحة خط أحمر لا يجب أن يتم والتي تريد استمرار الاعتقال السياسي والاستدعاءات وملاحقة أبناء حماس في الضفة الغربية.
5- يجدر بحركة فتح وقواعدها الشعبية الاستعداد للمواجهة مع الاحتلال الصهيوني، لأنه لن يسكت بسهولة وسيسعى لتصعيد الضغوط وبشكل مؤلم، وإن لم يكونوا مستعدين (نفسياً على الأقل) فقد ينهاروا تحت هذه الضغوط ونعود إلى نقطة الصفر.
6- أما أهم نقطة لكي ننجح فهي ضرورة زرع فكرة أن المصالحة ليست بين منتصر ومنهزم، أما إذا كان هنالك قناعة عند طرف ما "أننا منتصرون وهم مهزومون" فهذا يعني أن هذا الطرف لن يقدم ما هو مطلوب منه لأنه سيظن أنه غير مضطر لذلك. نجاح المصالحة لا تعني فقط أن يدخل الجميع العملية بنفسية مستعدة للالتزام بما هو مطلوب منهم بحسب الورقة التي وقعوا عليها، بل تقديم تنازلات في القضايا البسيطة التي ستظهر هنا وهناك خلال عملية المصالحة (والتي لن تنتهي خلال يوم واحد بل ستمتد لعام كامل).
في الختام:
يميل الناس إلى الحذر وعدم التفاؤل نظراً للأسبقيات التاريخية، ونظراً إلى حجم التحديات الحالية وغير السهلة، إلا أنه تتوفر اليوم ظروف ستجعل من المصالحة أمراً ممكناً لو استغلت هذه الظروف بالشكل الأمثل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق