قامت الدنيا ولم تقعد بعد عملية مستوطنة ايتمار والتي قتل بها خمسة مستوطنون صهاينة طعناً بالسكاكين ليلة الجمعة / السبت الماضي، وكان من الممكن أن يكون للعملية صدى فلسطينياً كبيراً وتأييداً كاسحاً لولا أن ثلاثة من القتلى كانوا أطفالاً صغار حيث دار جدل حول مشروعية قتل الأطفال، أما الصهاينة فكان متوقعاً ردة فعلهم الغاضبة والهائجة، كيف لا وهم الذين تثور ثائرتهم إذا قتل لهم جندي معتدي وسط ميدان المعركة فما بالكم عندما يكون بين القتلى أطفال.
البعض لم يشأ أن يصدق أن المنفذين فلسطينيين وشكك بدوافع المنفذين وهويتهم، وحتى نفهم الصورة بشكل واقعي بعيد عن الأماني والتصورات المسبقة فسنحاول تحليل الموقف وتحديد الجهة التي تتحمل مسؤولية هذه الدماء.
خلفيات العملية:
لم ندر ما حصل في ذلك البيت ولماذا قرر المنفذين قتل الأطفال، هل حصل ارتباك؟ هل هما شابين صغيرين بالسن ولا يميزان بين ما يجوز وما لايجوز؟ هل خافا أن يؤدي صراخ الأطفال للكشف عن وجودهما في المكان؟ لا ندري السبب لكن أجزم أنهما لم يكونا يلتذذان بذبح الأطفال كما صورهما البعض، والدليل أنهما تركا طفلين في نفس المنزل بدون قتل أو المساس بهما بالرغم من أنه كان معهما الوقت الكافي لذبحهما.
لم يعلن الصهاينة عن أسر المنفذين بالرغم من أن صحافتهم تتكلم عن حصول تقدم بالتحقيقات وقرب التوصل لهوية المنفذين، لكن من طبيعة العملية نستطيع القول أن منفذي العملية على الأرجح هم من الشباب الذين تصرفوا بشكل فردي وبدون ارتباط بأي تنظيم فلسطيني معروف، ربما يكونوا مؤيدين لهذا التنظيم أو ذلك لكن يستبعد وبدرجة كبيرة أن يكونوا مرتبطين بأي تنظيمات.
ويأتي استبعاد ارتباطهم بالتنظيمات من ناحيتين: تواضع تسليحه (أو تسلحيهما) فلو كان هنالك وراءهما تنظيم ما لأرسلهم بما هو أكثر من سكاكين فالتنظيمات تخلت عن استخدام السكاكين منذ زمن طويل، والناحية الأخرى هي تعمد قتل أطفال بينهم رضيع ففصائل المقاومة لم تتعمد قتل الأطفال في يوم من الأيام، كان يسقط بعض الأطفال الصهاينة عرضاً في عمليات المقاومة الاستشهادية أو قصفهم الصاروخي لكن لم يحصل ولا مرة أن أرسلوا بشكل متعمد من يذبح الأطفال وهم نائمين.
موقف المقاومة من قتل الأطفال:
وأروي هنا موقف المجاهد القسامي عامر أبو سرحان مفجر حرب السكاكين عام 1990م، والذي قتل ثلاثة صهاينة وأصاب مراهقاً صهيونياً، حيث يقول أنه وأثناء عملية الطعن وقع بين يديه مراهق صهيوني والذي قدر عمره بأربعة عشر عاماً.
وبالرغم من الإرباك في الموقف والتوتر العالي الذي كان يعيشه عامر أبو سرحان إلا أنه يروي كيف تردد كثيراً بطعنه وتساءل بينه وبين نفسه هل يجوز قتله أم لا يجوز، وبعد تفكير قرر طعنه طعنة غير قاتلة فقط، لأنه لم يكن متأكداً أنه يجوز قتله وفي نفس الوقت أراد ضمان أن لا يهاجمه المراهق فقرر أن أنسب شيء أن يصيبه بجراح غير قاتلة وهكذا كان.
ولنا في مواقف حركة حماس السابقة ما يثبت موقفها الرافض لقتل الأطفال، فهي وإن كانت تجيز قتل المدنيين الصهاينة باعتبار أن وجودهم على أرض فلسطين بحد ذاته هو جريمة وعدوان، إلا أنه عند قتل الأطفال الصغار فإنها تتوقف، ففي منتصف التسعينات قامت مجموعة تابعة للقسام بقتل مستوطنة صهيونية كانت تقود سيارة بمنطقة سلفيت، وتبين لاحقاً أن المستوطنة كانت حامل، وثارت ضجة بأن حماس تتعمد قتل الحوامل، فأصدرت حركة حماس يومها بياناً توضيحياً قالت أن وقت تنفيذ العملية كان ليلاً وأن المنفذين لم يستطيع تمييز من كان في السيارة وأن الحركة لا تتعمد قتل الحوامل.
بل أكثر من ذلك عرضت حماس في ذلك الوقت الوقف المتبادل لقتل المدنيين بين الصهاينة والفلسطينيين، أي أن تكون المواجهة حصراً بين رجال المقاومة وجنود الاحتلال، فما كان من رئيس حكومة الاحتلال رابين إلا رفض الفكرة جملة وتفصيلاً وقال: "لا نقبل باتفاق يعرض حياة جنود الاحتلال للخطر".
الوضع اليوم في الضفة الغربية:
هذه أخلاق حماس وأخلاق المقاومة الإسلامية بشكل عام، لكن لو استعرضنا الوضع اليوم في الضفة نجد أنه تم تفريغها من البنية التحتية المقاومة وضربت مؤسسات حركة حماس المدنية والعسكرية والدعوية، وتحارب السلطة القيم الإسلامية التي تحرم ضمن ما تحرمه قتل الأطفال الرضع محاربة، فقام وزير الأوقاف الهباش (ومن قبله بواطنة) بمحاربة الدين والتدين وأغلقوا دور تحفيظ القرآن.
كما أصبح التحريض على الاحتلال ممنوعاً في مساجد الضفة بقرار من الهباش الذي حرم الخطب السياسية ما عدا ما كان فيه تحريض على قناة الجزيرة أو الشيخ القرضاوي، معتقدين أن المقاومة ستخمد في المجتمع الضفاوي بهكذا اجراءات.
مع ذلك فروح المقاومة لم تخمد في الضفة وأعمال المقاومة الشعبية تتصاعد بشكل مستمر من أعمال رشق بالحجارة والزجاجات الحارقة، وأغلب النشطاء يتحركون ضمن مجموعات محلية لا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بأي تنظيم أو فصيل فلسطيني.
فنحن أمام ساحة سياسية تم تفريغها ومقاومة مسؤولة منضبطة لكن مغيبة وبدلاً من أن يلاقي الصهاينة الخنوع والخضوع ما زالوا يجدون المقاومة، وهي مقاومة تتحرك بدون موجه ولا ضابط ولا تفهم شيء سوى أن هنالك عدو صهيوني ويجب محاربته بأي طريقة كانت.
تذكرنا عملية الطعن هذه بعملية قتل سائحة أمريكية "متصهينة" واصابة زميلتها الصهيونية في أحد الأحراش بالقرب من القدس قبل شهرين، وقد تخلل عملية القتل قيام المهاجمين بالاستيلاء على حلي أحد المرأتين وهو تصرف لم يكن مألوفاً من رجال المقاومة مما دفع البعض للظن بأن المنفذين مجرد لصوص.
لاحقت قوات الاحتلال المنفذين وتبين أنهم كانوا مجموعة شباب من احدى قرى الخليل، ولم يكونوا معروفين بأي ميول سياسية بل تردد أنهم كانوا يحترفون السرقة من المستوطنات المجاورة، لكن في لحظة ما قرروا التوجه نحو العمل المقاوم وتنفيذ عمليات طعن ضد المحتلين.
كيف نتوقع من هؤلاء الشباب أن يلتزموا بتعاليم الإسلام وهم ممنوعين من حضور الجلسات الدينية وحلقات حفظ القرآن؟ كيف نتوقع منهم أن يفهموا أن دم الأطفال محرم وهم يتعلمون من الاحتلال الصهيوني نفسه مبدأ العقوبات الجماعية؛ فإن "أخطأ" أحدهم فالكل يجب أن يعاقب ما دام "المخطئ" فلسطينياً، ماذا تتوقعون من هؤلاء الشباب أن يفهموا؟ هل يستطيعون تعلم دروساً في الإنسانية وهم يرون العقوبات الجماعية ممارسة يومية أمامهم لا يستنكرها أحد من العالمين؟
أم يتعلمون من السلطة الفلسطينية: وقد فصلت هذه الموظفة من عملها لأن أخيها "حماس"، وقد اعتقلت رجلاً كبيراً في السن لتضغط على ابنه كي يسلم نفسه، ماذا نتوقع أن يتعلموا من سلطة تقول للناس أنها تنكل بأبناء حماس في الضفة انتقاماً لما حصل في غزة؟ كيف نقول لهم ولا تزر وازرة وزر أخرى؟ هل يجرؤ أحد في الضفة أن يقف علناً ويقول للسلطة ما تقومي به خطأ ولا تزر وازرة وزر أخرى؟ أم أن لسان الحال في الضفة هو: الغاية تبرر الوسيلة؟
إن كان تنكيل الفلسطيني بالفلسطيني مبرر لأن الغاية تبرر الوسيلة فمن باب أولى أن "إرعاب الصهاينة غاية تبرر قتل الأطفال" هكذا علمت الحياة هؤلاء الشبان المندفعين، عندما يسود انعدام الأخلاق في الضفة الغربية فيجب أن نتوقع أي شيء، وبدلاً من أن يهدد نتنياهو ويتوعد فليأخذ قطعان المستوطنين الذين عاثوا في الأرض خراباً ولم يزدهم هدوء الضفة إلا طغياناً وليرحلوا، وليعلم أن من يزرع الشوك لن يحصد إلا العلقم والدماء. هذا ما كسبته أيديكم.
من يتحمل المسؤولية:
فليعلم القاصي والداني أن كراهة الصهاينة والحقد عليهم ليست تعاليم متطرفة تلقيها حماس في المساجد بل هي دروس عملية في الحياة يتعلمها الناس في حياتهم اليومية على أيد جنود الاحتلال وعلى أيد وكلاء الاحتلال. ومن يتحمل دماء هؤلاء الأطفال هم بينامين نتنياهو وإيهود باراك وأفيغدور ليبرمان الذين رعوا المستوطنين ووفروا لهم الحماية وحرضوهم على الطغيان والعداون، كما يتحمل دمائهم سلام فياض ومحمود عباس الذين حاربوا الدين والتدين والمقاومة الملتزمة.
وأخيراً أوجه كلامي إلى كل مقاوم أو شاب يفكر بالقيام بعمل مقاوم: يعلم الله كم أحبكم وكم أحب الأرض التي تمشون عليها، ولحرصي عليكم ولكراهتي أن يزايد عليكم المزايدون وأصحاب المعايير المزدوجة والمثلثة والمربعة ارجو أن تحرصوا على تجنب مواطن الشبهة، مع كل تقدير لكل مجاهد ومقاوم، وعلمي بما تمرون به من مشقات وأهوال أثناء التخطيط للعملية وأثناء تنفيذها وبعدها والتعذيب الهمجي الذي ترونه لاحقاً في سجون الاحتلال، حماكم الله ورعاكم، ولتعلموا أن من يوجه النقد لكم من أبناء شعبكم إنما هو حرص عليكم ولحبه الخير لكم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق