لا يوجد الكثير من الأمور المشتركة بين نظام القذافي ونظام طالبان، إلا أنه بعد بدء الغارات الغربية على كتائب القذافي فإننا نستحضر أحد نقاط التشابه القليلة وهي دخول معركة خاسرة أمام قوة طيران مدمرة - معركة معروفة النتائج مسبقاً. في الحالة الأفغانية (عام 2001م) كان الأمريكان هم المبادرين بالحرب، واستخدموا القوة الجوية بشكل مكثف لتقويض قوات طالبان، ودخلت قوات التحالف الشمالي الأفغانية لاحقاً لتتقدم على الأرض، بينما في الحالة الليبية كانت الأمور معكوسة حيث بدأ الشعب الليبي التحرك ضد القذافي واندلعت الثورة وبعد أن بدت الثورة وكأنها ستدوم للأبد ما بين كر وفر جاء التدخل الجوي الغربي ليرجح كفة الثوار على قوات القذافي.
وبعيداً عن النوايا الغربية في أفغانستان أو ليبيا نريد المقارنة هنا بين طريقة تعامل القذافي وحركة طالبان مع الوضع الذي وجد كل منهما نفسه فيه، فعندما حشدت أمريكا الجيوش والطائرات لاجتياح أفغانستان كان الأمل معقوداً أن تقاوم طالبان بعنف وشراسة إلا أن حجم القوة التي حشدت لهم جعلت انتصار طالبان أمراً مشكوكاً به.
وبينما كان القصف الأمريكي في أوجه صدر تصريحين للملا محمد عمر، لم أفهمها جيداً في حينه: الأول طلبه من آلاف المتطوعين والمجاهدين الذين كانوا ينوون القدوم من باكستان أن لا يأتوا وأنه لا حاجة لهم، وظننت أنه مجرد كلام إعلامي، والثاني هو قوله بأن طالبان لن تستسلم وستخرج إلى الجبال وتحارب الأمريكان لسنوات طويلة وتساءلت لماذا يستعجل الأمور؟ ألا يثق بقدرات طالبان؟ لم تطل الحكاية وانسحبت طالبان بشكل سريع من داخل المدن واستولى الأمريكان وحلفاءهم الأفغان خلال أيام على جميع المناطق والمدن، فيما لجأ قادة طالبان إلى الجبال وذاب عناصر الحركة بين السكان، وظن الناس أن طالبان انتهت وللأبد وأن ما بقي هو مجرد فلول، إلا أن الأمور بدأت بالانقلاب حوالي عام 2005م وبدأت طالبان باستعادة زمام المبادرة وتصاعدت قوة هجماتها وازدادت قوة وشراسة.
لقد أدرك الملا محمد عمر وقادة طالبان أن معركتهم مع الطيران الأمريكي وحلفائهم هي معركة خاسرة بكل المعايير، لذا كان قرارهم بالانسحاب حتى لا تكون معركتهم انتحاراً بدون طائل وليحقنوا دماء المدنيين الأفغان الذين سيعلقون بين نيران المتحاربين، وكان بإمكان طالبان أن تحارب مدينة مدينة وشارعاً شارعاً وبيتاً بيتاً، ورجالها يمتلكون من الانتماء العقائدي وحب التضحية والاستشهاد ما يكفي لخوض هذه الملحمة، لكن عندما تكون النتيجة معروفة سلفاً لم يدخلون هذه المعركة؟ لم يكن في بال قادة طالبان حقن دماء مقاتليهم والشعب الأفغاني فحسب، بل كانت نيتهم الاستمرار بالحرب ضد الأمريكان لكن بما أن الحرب التقليدية غير ممكنة فلتكن حرب العصابات ومعارك الكر والفر وهذا ما حصل.
في مقابل ذلك ثار الشعب الليبي على حكم القذافي بعد 42 عاماً من الفوضى غير الخلاقة التي حكم بها ليبيا وبدد ثرواتها على مغامراته العبثية، وبدلاً من التسليم بأن الشعب الليبي لا يريده وجمع أولاده وأمواله (التي سرقها) والفرار إلى الخارج قرر خوض الحرب حتى النفس الأخيرة، وظن أنه بإمكانه الاستنجاد بالمرتزقة وحشد القوات واستخدم الحد الأقصى من القوة ضد الثوار، مع ذلك كان مشكوكاً في قدرته على الحسم لكن لم يهمه أن تتفتت ليبيا إلى دولتين أو أكثر أو أن تصبح دولةً فاشلة، المهم أن لا يستسلم وأن لا يقال أنه هرب. ولم يهتم بحقيقة أن ثمن انتصاره سيكون حرق الأخضر واليابس في ليبيا.
وبعد صدور قرار الأمم المتحدة بفرض منطقة الحظر الجوي بات من المؤكد أن أيامه معدودة بالحكم، مع ذلك قرر المقامرة وأرسل آلاف الجنود في مغامرة لاحتلال بنغازي وتركهم لقمة سائغة للطيران الغربي بالصحراء الليبية، وما زال لحد اللحظة مصراً على التمسك بالسلطة وعلى تدمير ليبيا شبر شبر ومتر متر بالرغم من أن معركته خاسرة بكل المعايير.
ويتفاجأ الكثير من شراسة قوات القذافي في الدفاع عنه فهل يستحق بقاء شخص على كرسي الحكم كل هذه التضحيات والدماء التي تبذل؟ هل يستحق ذلك أن يضحي المرء بحياته؟ ربما نجد الإجابة بأن قادة قوات القذافي يخافون من انتقام الشعب الليبي نظراً لجرائمهم السابقة التي ارتكبوها فيعتبروها حربهم المصيرية، وينسحب نفس الشيء على الحركات المعارضة الأفريقية من تشاد ودارفور وغيرها (والتي يأتي منها قسم كبير من مرتزقة القذافي) وتخاف أن تصبح يتيمة ووحيدة بعد زواله.
أما صغار الجنود فيتم التحكم بهم من خلال غسل أدمغتهم وإرعابهم وتخويفهم، وقد شاهدت فيديو يجبر فيها المجندون الجدد بكتيبة خميس القذافي على تناول لحوم الكلاب النيئة مع تلقيهم للضرب والاهانات إن هم ترددوا كجزء من العملية التي تهدف لصنع آلات قتل مفرغة من العقل والتفكير السليم ومجردة من كل القيم الإنسانية.
إن الفرق بين تصرف حركة طالبان والقذافي يتمثل في أمرين أساسيين: 1- قيادة طالبان تعاملت بواقعية مع المعطيات على الأرض واستعرضت الخيارات واختارت أقلها ضرراً، أما القذافي فقد بقي لحد اللحظة يعيش في وهم أنه يستطيع البقاء حاكماً ولو على جزء من الأرض الليبية. 2- طالبان فضلت تجنيب الشعب الأفغاني حمام دماء بالرغم من أنها كانت تواجه أمريكا وخوض حرب قاسية ضدها مبرر عقائدياً ومبدئياً، في حين أن القذافي فضل حرق ليبيا عن بكرة أبيها لكي يحافظ على مصالحه الشخصية (أو الانتقام من الشعب الليبي إن لم يستطع الحفاظ على الكرسي).
أمامنا اليوم مشهد لطاغية يقاتل حتى الرمق الأخير من أجل حفاظه على مصالحه الذاتية الضيقة، ولا يستطيع أن يهرب إلى الجبال وأحضان شعبه كما فعلت طالبان، لأن طالبان كانت (ولا زالت) جزءاً لا يتجزأ من الشعب الأفغاني، أما هو فعدوه الأول هو الشعب الليبي. في مثل هذه المواقف نقارن بين الأضاد فلا نملك إلا أن نحيي حركة طالبان التي أثبتت حرصاً على دماء عناصرها ومؤيديها ودماء ومقدرات الشعب الأفغاني في تلك اللحظة الحرجة، بالرغم من أن لدى المرء ملاحظات وانتقادات لها (قبل وبعد سقوط حكمها)، فيما لا نملك أن نقول عن القذافي سوى أننا أمام أحد أقذر طغاة البشرية على الإطلاق.
شباب من أجل فلسطين تحاول أن تستثير همة الشباب وتتفاعل مع أفكارهم، فأي فكرة مهما كانت بسيطة نحتاجها ما دامت تخدم القضية الفلسطينية.
الثلاثاء، 29 مارس 2011
الاثنين، 14 مارس 2011
من يتحمل مسؤولية دماء الأطفال الذين قتلوا في "ايتمار"
قامت الدنيا ولم تقعد بعد عملية مستوطنة ايتمار والتي قتل بها خمسة مستوطنون صهاينة طعناً بالسكاكين ليلة الجمعة / السبت الماضي، وكان من الممكن أن يكون للعملية صدى فلسطينياً كبيراً وتأييداً كاسحاً لولا أن ثلاثة من القتلى كانوا أطفالاً صغار حيث دار جدل حول مشروعية قتل الأطفال، أما الصهاينة فكان متوقعاً ردة فعلهم الغاضبة والهائجة، كيف لا وهم الذين تثور ثائرتهم إذا قتل لهم جندي معتدي وسط ميدان المعركة فما بالكم عندما يكون بين القتلى أطفال.
البعض لم يشأ أن يصدق أن المنفذين فلسطينيين وشكك بدوافع المنفذين وهويتهم، وحتى نفهم الصورة بشكل واقعي بعيد عن الأماني والتصورات المسبقة فسنحاول تحليل الموقف وتحديد الجهة التي تتحمل مسؤولية هذه الدماء.
خلفيات العملية:
لم ندر ما حصل في ذلك البيت ولماذا قرر المنفذين قتل الأطفال، هل حصل ارتباك؟ هل هما شابين صغيرين بالسن ولا يميزان بين ما يجوز وما لايجوز؟ هل خافا أن يؤدي صراخ الأطفال للكشف عن وجودهما في المكان؟ لا ندري السبب لكن أجزم أنهما لم يكونا يلتذذان بذبح الأطفال كما صورهما البعض، والدليل أنهما تركا طفلين في نفس المنزل بدون قتل أو المساس بهما بالرغم من أنه كان معهما الوقت الكافي لذبحهما.
لم يعلن الصهاينة عن أسر المنفذين بالرغم من أن صحافتهم تتكلم عن حصول تقدم بالتحقيقات وقرب التوصل لهوية المنفذين، لكن من طبيعة العملية نستطيع القول أن منفذي العملية على الأرجح هم من الشباب الذين تصرفوا بشكل فردي وبدون ارتباط بأي تنظيم فلسطيني معروف، ربما يكونوا مؤيدين لهذا التنظيم أو ذلك لكن يستبعد وبدرجة كبيرة أن يكونوا مرتبطين بأي تنظيمات.
ويأتي استبعاد ارتباطهم بالتنظيمات من ناحيتين: تواضع تسليحه (أو تسلحيهما) فلو كان هنالك وراءهما تنظيم ما لأرسلهم بما هو أكثر من سكاكين فالتنظيمات تخلت عن استخدام السكاكين منذ زمن طويل، والناحية الأخرى هي تعمد قتل أطفال بينهم رضيع ففصائل المقاومة لم تتعمد قتل الأطفال في يوم من الأيام، كان يسقط بعض الأطفال الصهاينة عرضاً في عمليات المقاومة الاستشهادية أو قصفهم الصاروخي لكن لم يحصل ولا مرة أن أرسلوا بشكل متعمد من يذبح الأطفال وهم نائمين.
موقف المقاومة من قتل الأطفال:
وأروي هنا موقف المجاهد القسامي عامر أبو سرحان مفجر حرب السكاكين عام 1990م، والذي قتل ثلاثة صهاينة وأصاب مراهقاً صهيونياً، حيث يقول أنه وأثناء عملية الطعن وقع بين يديه مراهق صهيوني والذي قدر عمره بأربعة عشر عاماً.
وبالرغم من الإرباك في الموقف والتوتر العالي الذي كان يعيشه عامر أبو سرحان إلا أنه يروي كيف تردد كثيراً بطعنه وتساءل بينه وبين نفسه هل يجوز قتله أم لا يجوز، وبعد تفكير قرر طعنه طعنة غير قاتلة فقط، لأنه لم يكن متأكداً أنه يجوز قتله وفي نفس الوقت أراد ضمان أن لا يهاجمه المراهق فقرر أن أنسب شيء أن يصيبه بجراح غير قاتلة وهكذا كان.
ولنا في مواقف حركة حماس السابقة ما يثبت موقفها الرافض لقتل الأطفال، فهي وإن كانت تجيز قتل المدنيين الصهاينة باعتبار أن وجودهم على أرض فلسطين بحد ذاته هو جريمة وعدوان، إلا أنه عند قتل الأطفال الصغار فإنها تتوقف، ففي منتصف التسعينات قامت مجموعة تابعة للقسام بقتل مستوطنة صهيونية كانت تقود سيارة بمنطقة سلفيت، وتبين لاحقاً أن المستوطنة كانت حامل، وثارت ضجة بأن حماس تتعمد قتل الحوامل، فأصدرت حركة حماس يومها بياناً توضيحياً قالت أن وقت تنفيذ العملية كان ليلاً وأن المنفذين لم يستطيع تمييز من كان في السيارة وأن الحركة لا تتعمد قتل الحوامل.
بل أكثر من ذلك عرضت حماس في ذلك الوقت الوقف المتبادل لقتل المدنيين بين الصهاينة والفلسطينيين، أي أن تكون المواجهة حصراً بين رجال المقاومة وجنود الاحتلال، فما كان من رئيس حكومة الاحتلال رابين إلا رفض الفكرة جملة وتفصيلاً وقال: "لا نقبل باتفاق يعرض حياة جنود الاحتلال للخطر".
الوضع اليوم في الضفة الغربية:
هذه أخلاق حماس وأخلاق المقاومة الإسلامية بشكل عام، لكن لو استعرضنا الوضع اليوم في الضفة نجد أنه تم تفريغها من البنية التحتية المقاومة وضربت مؤسسات حركة حماس المدنية والعسكرية والدعوية، وتحارب السلطة القيم الإسلامية التي تحرم ضمن ما تحرمه قتل الأطفال الرضع محاربة، فقام وزير الأوقاف الهباش (ومن قبله بواطنة) بمحاربة الدين والتدين وأغلقوا دور تحفيظ القرآن.
كما أصبح التحريض على الاحتلال ممنوعاً في مساجد الضفة بقرار من الهباش الذي حرم الخطب السياسية ما عدا ما كان فيه تحريض على قناة الجزيرة أو الشيخ القرضاوي، معتقدين أن المقاومة ستخمد في المجتمع الضفاوي بهكذا اجراءات.
مع ذلك فروح المقاومة لم تخمد في الضفة وأعمال المقاومة الشعبية تتصاعد بشكل مستمر من أعمال رشق بالحجارة والزجاجات الحارقة، وأغلب النشطاء يتحركون ضمن مجموعات محلية لا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بأي تنظيم أو فصيل فلسطيني.
فنحن أمام ساحة سياسية تم تفريغها ومقاومة مسؤولة منضبطة لكن مغيبة وبدلاً من أن يلاقي الصهاينة الخنوع والخضوع ما زالوا يجدون المقاومة، وهي مقاومة تتحرك بدون موجه ولا ضابط ولا تفهم شيء سوى أن هنالك عدو صهيوني ويجب محاربته بأي طريقة كانت.
تذكرنا عملية الطعن هذه بعملية قتل سائحة أمريكية "متصهينة" واصابة زميلتها الصهيونية في أحد الأحراش بالقرب من القدس قبل شهرين، وقد تخلل عملية القتل قيام المهاجمين بالاستيلاء على حلي أحد المرأتين وهو تصرف لم يكن مألوفاً من رجال المقاومة مما دفع البعض للظن بأن المنفذين مجرد لصوص.
لاحقت قوات الاحتلال المنفذين وتبين أنهم كانوا مجموعة شباب من احدى قرى الخليل، ولم يكونوا معروفين بأي ميول سياسية بل تردد أنهم كانوا يحترفون السرقة من المستوطنات المجاورة، لكن في لحظة ما قرروا التوجه نحو العمل المقاوم وتنفيذ عمليات طعن ضد المحتلين.
كيف نتوقع من هؤلاء الشباب أن يلتزموا بتعاليم الإسلام وهم ممنوعين من حضور الجلسات الدينية وحلقات حفظ القرآن؟ كيف نتوقع منهم أن يفهموا أن دم الأطفال محرم وهم يتعلمون من الاحتلال الصهيوني نفسه مبدأ العقوبات الجماعية؛ فإن "أخطأ" أحدهم فالكل يجب أن يعاقب ما دام "المخطئ" فلسطينياً، ماذا تتوقعون من هؤلاء الشباب أن يفهموا؟ هل يستطيعون تعلم دروساً في الإنسانية وهم يرون العقوبات الجماعية ممارسة يومية أمامهم لا يستنكرها أحد من العالمين؟
أم يتعلمون من السلطة الفلسطينية: وقد فصلت هذه الموظفة من عملها لأن أخيها "حماس"، وقد اعتقلت رجلاً كبيراً في السن لتضغط على ابنه كي يسلم نفسه، ماذا نتوقع أن يتعلموا من سلطة تقول للناس أنها تنكل بأبناء حماس في الضفة انتقاماً لما حصل في غزة؟ كيف نقول لهم ولا تزر وازرة وزر أخرى؟ هل يجرؤ أحد في الضفة أن يقف علناً ويقول للسلطة ما تقومي به خطأ ولا تزر وازرة وزر أخرى؟ أم أن لسان الحال في الضفة هو: الغاية تبرر الوسيلة؟
إن كان تنكيل الفلسطيني بالفلسطيني مبرر لأن الغاية تبرر الوسيلة فمن باب أولى أن "إرعاب الصهاينة غاية تبرر قتل الأطفال" هكذا علمت الحياة هؤلاء الشبان المندفعين، عندما يسود انعدام الأخلاق في الضفة الغربية فيجب أن نتوقع أي شيء، وبدلاً من أن يهدد نتنياهو ويتوعد فليأخذ قطعان المستوطنين الذين عاثوا في الأرض خراباً ولم يزدهم هدوء الضفة إلا طغياناً وليرحلوا، وليعلم أن من يزرع الشوك لن يحصد إلا العلقم والدماء. هذا ما كسبته أيديكم.
من يتحمل المسؤولية:
فليعلم القاصي والداني أن كراهة الصهاينة والحقد عليهم ليست تعاليم متطرفة تلقيها حماس في المساجد بل هي دروس عملية في الحياة يتعلمها الناس في حياتهم اليومية على أيد جنود الاحتلال وعلى أيد وكلاء الاحتلال. ومن يتحمل دماء هؤلاء الأطفال هم بينامين نتنياهو وإيهود باراك وأفيغدور ليبرمان الذين رعوا المستوطنين ووفروا لهم الحماية وحرضوهم على الطغيان والعداون، كما يتحمل دمائهم سلام فياض ومحمود عباس الذين حاربوا الدين والتدين والمقاومة الملتزمة.
وأخيراً أوجه كلامي إلى كل مقاوم أو شاب يفكر بالقيام بعمل مقاوم: يعلم الله كم أحبكم وكم أحب الأرض التي تمشون عليها، ولحرصي عليكم ولكراهتي أن يزايد عليكم المزايدون وأصحاب المعايير المزدوجة والمثلثة والمربعة ارجو أن تحرصوا على تجنب مواطن الشبهة، مع كل تقدير لكل مجاهد ومقاوم، وعلمي بما تمرون به من مشقات وأهوال أثناء التخطيط للعملية وأثناء تنفيذها وبعدها والتعذيب الهمجي الذي ترونه لاحقاً في سجون الاحتلال، حماكم الله ورعاكم، ولتعلموا أن من يوجه النقد لكم من أبناء شعبكم إنما هو حرص عليكم ولحبه الخير لكم.
البعض لم يشأ أن يصدق أن المنفذين فلسطينيين وشكك بدوافع المنفذين وهويتهم، وحتى نفهم الصورة بشكل واقعي بعيد عن الأماني والتصورات المسبقة فسنحاول تحليل الموقف وتحديد الجهة التي تتحمل مسؤولية هذه الدماء.
خلفيات العملية:
لم ندر ما حصل في ذلك البيت ولماذا قرر المنفذين قتل الأطفال، هل حصل ارتباك؟ هل هما شابين صغيرين بالسن ولا يميزان بين ما يجوز وما لايجوز؟ هل خافا أن يؤدي صراخ الأطفال للكشف عن وجودهما في المكان؟ لا ندري السبب لكن أجزم أنهما لم يكونا يلتذذان بذبح الأطفال كما صورهما البعض، والدليل أنهما تركا طفلين في نفس المنزل بدون قتل أو المساس بهما بالرغم من أنه كان معهما الوقت الكافي لذبحهما.
لم يعلن الصهاينة عن أسر المنفذين بالرغم من أن صحافتهم تتكلم عن حصول تقدم بالتحقيقات وقرب التوصل لهوية المنفذين، لكن من طبيعة العملية نستطيع القول أن منفذي العملية على الأرجح هم من الشباب الذين تصرفوا بشكل فردي وبدون ارتباط بأي تنظيم فلسطيني معروف، ربما يكونوا مؤيدين لهذا التنظيم أو ذلك لكن يستبعد وبدرجة كبيرة أن يكونوا مرتبطين بأي تنظيمات.
ويأتي استبعاد ارتباطهم بالتنظيمات من ناحيتين: تواضع تسليحه (أو تسلحيهما) فلو كان هنالك وراءهما تنظيم ما لأرسلهم بما هو أكثر من سكاكين فالتنظيمات تخلت عن استخدام السكاكين منذ زمن طويل، والناحية الأخرى هي تعمد قتل أطفال بينهم رضيع ففصائل المقاومة لم تتعمد قتل الأطفال في يوم من الأيام، كان يسقط بعض الأطفال الصهاينة عرضاً في عمليات المقاومة الاستشهادية أو قصفهم الصاروخي لكن لم يحصل ولا مرة أن أرسلوا بشكل متعمد من يذبح الأطفال وهم نائمين.
موقف المقاومة من قتل الأطفال:
وأروي هنا موقف المجاهد القسامي عامر أبو سرحان مفجر حرب السكاكين عام 1990م، والذي قتل ثلاثة صهاينة وأصاب مراهقاً صهيونياً، حيث يقول أنه وأثناء عملية الطعن وقع بين يديه مراهق صهيوني والذي قدر عمره بأربعة عشر عاماً.
وبالرغم من الإرباك في الموقف والتوتر العالي الذي كان يعيشه عامر أبو سرحان إلا أنه يروي كيف تردد كثيراً بطعنه وتساءل بينه وبين نفسه هل يجوز قتله أم لا يجوز، وبعد تفكير قرر طعنه طعنة غير قاتلة فقط، لأنه لم يكن متأكداً أنه يجوز قتله وفي نفس الوقت أراد ضمان أن لا يهاجمه المراهق فقرر أن أنسب شيء أن يصيبه بجراح غير قاتلة وهكذا كان.
ولنا في مواقف حركة حماس السابقة ما يثبت موقفها الرافض لقتل الأطفال، فهي وإن كانت تجيز قتل المدنيين الصهاينة باعتبار أن وجودهم على أرض فلسطين بحد ذاته هو جريمة وعدوان، إلا أنه عند قتل الأطفال الصغار فإنها تتوقف، ففي منتصف التسعينات قامت مجموعة تابعة للقسام بقتل مستوطنة صهيونية كانت تقود سيارة بمنطقة سلفيت، وتبين لاحقاً أن المستوطنة كانت حامل، وثارت ضجة بأن حماس تتعمد قتل الحوامل، فأصدرت حركة حماس يومها بياناً توضيحياً قالت أن وقت تنفيذ العملية كان ليلاً وأن المنفذين لم يستطيع تمييز من كان في السيارة وأن الحركة لا تتعمد قتل الحوامل.
بل أكثر من ذلك عرضت حماس في ذلك الوقت الوقف المتبادل لقتل المدنيين بين الصهاينة والفلسطينيين، أي أن تكون المواجهة حصراً بين رجال المقاومة وجنود الاحتلال، فما كان من رئيس حكومة الاحتلال رابين إلا رفض الفكرة جملة وتفصيلاً وقال: "لا نقبل باتفاق يعرض حياة جنود الاحتلال للخطر".
الوضع اليوم في الضفة الغربية:
هذه أخلاق حماس وأخلاق المقاومة الإسلامية بشكل عام، لكن لو استعرضنا الوضع اليوم في الضفة نجد أنه تم تفريغها من البنية التحتية المقاومة وضربت مؤسسات حركة حماس المدنية والعسكرية والدعوية، وتحارب السلطة القيم الإسلامية التي تحرم ضمن ما تحرمه قتل الأطفال الرضع محاربة، فقام وزير الأوقاف الهباش (ومن قبله بواطنة) بمحاربة الدين والتدين وأغلقوا دور تحفيظ القرآن.
كما أصبح التحريض على الاحتلال ممنوعاً في مساجد الضفة بقرار من الهباش الذي حرم الخطب السياسية ما عدا ما كان فيه تحريض على قناة الجزيرة أو الشيخ القرضاوي، معتقدين أن المقاومة ستخمد في المجتمع الضفاوي بهكذا اجراءات.
مع ذلك فروح المقاومة لم تخمد في الضفة وأعمال المقاومة الشعبية تتصاعد بشكل مستمر من أعمال رشق بالحجارة والزجاجات الحارقة، وأغلب النشطاء يتحركون ضمن مجموعات محلية لا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بأي تنظيم أو فصيل فلسطيني.
فنحن أمام ساحة سياسية تم تفريغها ومقاومة مسؤولة منضبطة لكن مغيبة وبدلاً من أن يلاقي الصهاينة الخنوع والخضوع ما زالوا يجدون المقاومة، وهي مقاومة تتحرك بدون موجه ولا ضابط ولا تفهم شيء سوى أن هنالك عدو صهيوني ويجب محاربته بأي طريقة كانت.
تذكرنا عملية الطعن هذه بعملية قتل سائحة أمريكية "متصهينة" واصابة زميلتها الصهيونية في أحد الأحراش بالقرب من القدس قبل شهرين، وقد تخلل عملية القتل قيام المهاجمين بالاستيلاء على حلي أحد المرأتين وهو تصرف لم يكن مألوفاً من رجال المقاومة مما دفع البعض للظن بأن المنفذين مجرد لصوص.
لاحقت قوات الاحتلال المنفذين وتبين أنهم كانوا مجموعة شباب من احدى قرى الخليل، ولم يكونوا معروفين بأي ميول سياسية بل تردد أنهم كانوا يحترفون السرقة من المستوطنات المجاورة، لكن في لحظة ما قرروا التوجه نحو العمل المقاوم وتنفيذ عمليات طعن ضد المحتلين.
كيف نتوقع من هؤلاء الشباب أن يلتزموا بتعاليم الإسلام وهم ممنوعين من حضور الجلسات الدينية وحلقات حفظ القرآن؟ كيف نتوقع منهم أن يفهموا أن دم الأطفال محرم وهم يتعلمون من الاحتلال الصهيوني نفسه مبدأ العقوبات الجماعية؛ فإن "أخطأ" أحدهم فالكل يجب أن يعاقب ما دام "المخطئ" فلسطينياً، ماذا تتوقعون من هؤلاء الشباب أن يفهموا؟ هل يستطيعون تعلم دروساً في الإنسانية وهم يرون العقوبات الجماعية ممارسة يومية أمامهم لا يستنكرها أحد من العالمين؟
أم يتعلمون من السلطة الفلسطينية: وقد فصلت هذه الموظفة من عملها لأن أخيها "حماس"، وقد اعتقلت رجلاً كبيراً في السن لتضغط على ابنه كي يسلم نفسه، ماذا نتوقع أن يتعلموا من سلطة تقول للناس أنها تنكل بأبناء حماس في الضفة انتقاماً لما حصل في غزة؟ كيف نقول لهم ولا تزر وازرة وزر أخرى؟ هل يجرؤ أحد في الضفة أن يقف علناً ويقول للسلطة ما تقومي به خطأ ولا تزر وازرة وزر أخرى؟ أم أن لسان الحال في الضفة هو: الغاية تبرر الوسيلة؟
إن كان تنكيل الفلسطيني بالفلسطيني مبرر لأن الغاية تبرر الوسيلة فمن باب أولى أن "إرعاب الصهاينة غاية تبرر قتل الأطفال" هكذا علمت الحياة هؤلاء الشبان المندفعين، عندما يسود انعدام الأخلاق في الضفة الغربية فيجب أن نتوقع أي شيء، وبدلاً من أن يهدد نتنياهو ويتوعد فليأخذ قطعان المستوطنين الذين عاثوا في الأرض خراباً ولم يزدهم هدوء الضفة إلا طغياناً وليرحلوا، وليعلم أن من يزرع الشوك لن يحصد إلا العلقم والدماء. هذا ما كسبته أيديكم.
من يتحمل المسؤولية:
فليعلم القاصي والداني أن كراهة الصهاينة والحقد عليهم ليست تعاليم متطرفة تلقيها حماس في المساجد بل هي دروس عملية في الحياة يتعلمها الناس في حياتهم اليومية على أيد جنود الاحتلال وعلى أيد وكلاء الاحتلال. ومن يتحمل دماء هؤلاء الأطفال هم بينامين نتنياهو وإيهود باراك وأفيغدور ليبرمان الذين رعوا المستوطنين ووفروا لهم الحماية وحرضوهم على الطغيان والعداون، كما يتحمل دمائهم سلام فياض ومحمود عباس الذين حاربوا الدين والتدين والمقاومة الملتزمة.
وأخيراً أوجه كلامي إلى كل مقاوم أو شاب يفكر بالقيام بعمل مقاوم: يعلم الله كم أحبكم وكم أحب الأرض التي تمشون عليها، ولحرصي عليكم ولكراهتي أن يزايد عليكم المزايدون وأصحاب المعايير المزدوجة والمثلثة والمربعة ارجو أن تحرصوا على تجنب مواطن الشبهة، مع كل تقدير لكل مجاهد ومقاوم، وعلمي بما تمرون به من مشقات وأهوال أثناء التخطيط للعملية وأثناء تنفيذها وبعدها والتعذيب الهمجي الذي ترونه لاحقاً في سجون الاحتلال، حماكم الله ورعاكم، ولتعلموا أن من يوجه النقد لكم من أبناء شعبكم إنما هو حرص عليكم ولحبه الخير لكم.
السبت، 12 مارس 2011
عبد الباري والثورة الليبية: تخوفات لا لزوم لها
خرج علينا اليوم عبد الباري عطوان بافتتاحية تحت عنوان "الخيار المر بين الاستبداد والاستعمار"، ليصف الوضع في ليبيا وما يتردد عن طلب الثوار المساعدة من العالم (غربه وعربه) من أجل فرض منطقة حظر طيران، لمساعدتهم في تعديل موازين القوى المختل لصالح هذا المستبد المجنون.
أول خطأ ارتكبه الأستاذ عبد الباري عطوان عندما صور الأمر وكأنه اختيار بين مستبد ومستعمر، فالمستبد لا يحكم بقوته الذاتية بل يستعين بالاستعمار نفسه، وماذا نسمي المرتزقة الأجانب (وهم يشكلوا حوالي 80% من كتائب القذافي حسب بعض التقارير)، أليس هذا استعماراً من نوع آخر؟ وماذا يسمي تحريض القذافي للغرب على الثورة الليبية ووعده بأن يحمي الغرب من اللاجئين الأفارقة الذي يريدون الهجرة إلى أوروبا، وأن وجوده في الحكم ضروري لأمن الكيان الصهيوني؟
ألا يعتبر كلام القذافي استقواءً بالغرب؟ ألا يعتبر طلبه من الغرب أن يأتي لليبيا من أجل محاربة القاعدة كما حصل في أفغانستان والعراق استعماراً جديداً يدعو له القذافي؟ لماذا نسمح لتخوفاتنا من الدعم الغربي الذي قد يقدم للثوار أن يستولي علينا ونرى الصورة مجتزأة بهذا الشكل؟
اتمنى من كل قلبي أن يحسم الثوار المعركة بقوتهم الذاتية بدون دعم غربي ولا خارجي، لكن تطورات الأحداث على الأرض واستقواء القذافي بالمرتزقة الأجانب (الاستعمار المقنع) قد لا يترك للثوار خيارات كثيرة.
ويتكلم عن تخلي الشعوب العربية عن دعمها للثورة الليبية في حال قام الغرب بالتدخل، ولماذا نطلب من الثوار أن لا يستعينوا بأحد في الوقت الذي لا يجدون أي بديل؟ قدم لهم البديل، وهم بالتأكيد وطنيون وأعلنوا عن رفضهم المطلق لأي احتلال غربي لليبيا أو قوات برية تطأ أرض ليبيا تحت أي مسمى (على عكس القذافي)، لماذا لم يطالب عبد الباري عطوان الدول العربية لكي تفرض هي بقواتها الجوية منطقة الحظر الجوي؟
أليس من الأجدى أن تقوم مصر والجزائر وهي أقرب الدول لليبيا وتمتلكان قوات جوية معتبرة، بفرض منطقة حظر الطيران فوق ليبيا وليكن ذلك بغطاء دولي؟ لماذا وجدت كل هذه الجيوش والأسلحة؟ أليس استخدامها لإنقاذ شعب من حاكم مجنون سبباً وجيهاً لاستخدامها، أليس استخدامها أفضل من أن يأتي الأمريكان ويفرضوا شروطهم أو يقصفوا بشكل عشوائي لا يفرق بين المدنيين وكتائب القذافي، والأهم لكي لا يشارك الأمريكان بمجد الانتصار للثورة الليبية.
الثورة الليبية هي ثورة شرعية دعمها من دعمها وتخلى عنها من تخلى، ويوجد فرق كبير بين أن تحرض أمريكا على ثورة وأن تخطط لها وبين أن تأتي لدعم ثورة قامت بمبادرة ذاتية، وخصوصاً عندما يكون هذا الدعم في المراحل الأخيرة للثورة، لا نستطيع منع الأمريكان من دعمها وإن كان كل الدعم لحد الآن ما زال كلاماً و"الحكي ما عليه جمرك". وهذا لا يلوث الثوار المخلصين ولا يجب أن ينسينا أنها ثورة عربية في صميمها ومبتدئها ومنتهاها.
إن كان هنالك من يجب لومه فهو ذلك الشيطان الأخرس الذي لا يتحرك لنصرة الثورة الليبية، هذا من يجب أن يوجه إليه سهام الانتقاد، لا الثوار الليبيين الذين يحاربوا طاغية عصره سواء دعمتهم أمريكا أم لم تدعمهم.
كنت قد حذرت الثوار من خطر الدعوة للتدخل الأجنبي، وما زلت متوجساً من هذا التدخل ودوافعه ونتائجه، لكني لا أرهن تأييدي للثورة بهذا التدخل، ولن أغير رأيي بالثوار، وأكثر من ذلك فالثورة لا يضيرها أي دعم ما لم يكن مشروطاً.
وللدكتور عزمي بشارة رأي بأن الدعم بحد ذاته لا مشكلة فيه، لأنه يمكن وبكل بساطة أن نقول لمن دعمنا هنا أو هناك شكراً لك لكن لا تفرض شروطك علينا، وأن المشكلة كانت طوال الوقت في الحكام العرب الذين كانوا يشعرون بأن وجودهم مرتبط بالوفاء للأمريكان وخدمتهم.
إذن يا أستاذ عبد الباري عطوان الشعب الليبي أمام خيارين: إما مستبد ومستعمر وبلد مفكك وفاشل وإما ثورة واستعانة بأي مساعدة غير مشروطة، وإن كنا نتمنى أن يكون الانتصار بأيد ليبية وعربية صرفة لكن بكل تأكيد فالخيار الثاني يجب أن نقبله جميعاً، ولنتذكر دوماً أن الطاغية الذي يقبل بتقسيم بلده أو يدعو المستعمر للقدوم إلى بلده من أجل أن يحافظ على بقاء أسرته بالسلطة هو وحده من يتحمل مسؤولية كل ما يحصل في ليبيا.
أول خطأ ارتكبه الأستاذ عبد الباري عطوان عندما صور الأمر وكأنه اختيار بين مستبد ومستعمر، فالمستبد لا يحكم بقوته الذاتية بل يستعين بالاستعمار نفسه، وماذا نسمي المرتزقة الأجانب (وهم يشكلوا حوالي 80% من كتائب القذافي حسب بعض التقارير)، أليس هذا استعماراً من نوع آخر؟ وماذا يسمي تحريض القذافي للغرب على الثورة الليبية ووعده بأن يحمي الغرب من اللاجئين الأفارقة الذي يريدون الهجرة إلى أوروبا، وأن وجوده في الحكم ضروري لأمن الكيان الصهيوني؟
ألا يعتبر كلام القذافي استقواءً بالغرب؟ ألا يعتبر طلبه من الغرب أن يأتي لليبيا من أجل محاربة القاعدة كما حصل في أفغانستان والعراق استعماراً جديداً يدعو له القذافي؟ لماذا نسمح لتخوفاتنا من الدعم الغربي الذي قد يقدم للثوار أن يستولي علينا ونرى الصورة مجتزأة بهذا الشكل؟
اتمنى من كل قلبي أن يحسم الثوار المعركة بقوتهم الذاتية بدون دعم غربي ولا خارجي، لكن تطورات الأحداث على الأرض واستقواء القذافي بالمرتزقة الأجانب (الاستعمار المقنع) قد لا يترك للثوار خيارات كثيرة.
ويتكلم عن تخلي الشعوب العربية عن دعمها للثورة الليبية في حال قام الغرب بالتدخل، ولماذا نطلب من الثوار أن لا يستعينوا بأحد في الوقت الذي لا يجدون أي بديل؟ قدم لهم البديل، وهم بالتأكيد وطنيون وأعلنوا عن رفضهم المطلق لأي احتلال غربي لليبيا أو قوات برية تطأ أرض ليبيا تحت أي مسمى (على عكس القذافي)، لماذا لم يطالب عبد الباري عطوان الدول العربية لكي تفرض هي بقواتها الجوية منطقة الحظر الجوي؟
أليس من الأجدى أن تقوم مصر والجزائر وهي أقرب الدول لليبيا وتمتلكان قوات جوية معتبرة، بفرض منطقة حظر الطيران فوق ليبيا وليكن ذلك بغطاء دولي؟ لماذا وجدت كل هذه الجيوش والأسلحة؟ أليس استخدامها لإنقاذ شعب من حاكم مجنون سبباً وجيهاً لاستخدامها، أليس استخدامها أفضل من أن يأتي الأمريكان ويفرضوا شروطهم أو يقصفوا بشكل عشوائي لا يفرق بين المدنيين وكتائب القذافي، والأهم لكي لا يشارك الأمريكان بمجد الانتصار للثورة الليبية.
الثورة الليبية هي ثورة شرعية دعمها من دعمها وتخلى عنها من تخلى، ويوجد فرق كبير بين أن تحرض أمريكا على ثورة وأن تخطط لها وبين أن تأتي لدعم ثورة قامت بمبادرة ذاتية، وخصوصاً عندما يكون هذا الدعم في المراحل الأخيرة للثورة، لا نستطيع منع الأمريكان من دعمها وإن كان كل الدعم لحد الآن ما زال كلاماً و"الحكي ما عليه جمرك". وهذا لا يلوث الثوار المخلصين ولا يجب أن ينسينا أنها ثورة عربية في صميمها ومبتدئها ومنتهاها.
إن كان هنالك من يجب لومه فهو ذلك الشيطان الأخرس الذي لا يتحرك لنصرة الثورة الليبية، هذا من يجب أن يوجه إليه سهام الانتقاد، لا الثوار الليبيين الذين يحاربوا طاغية عصره سواء دعمتهم أمريكا أم لم تدعمهم.
كنت قد حذرت الثوار من خطر الدعوة للتدخل الأجنبي، وما زلت متوجساً من هذا التدخل ودوافعه ونتائجه، لكني لا أرهن تأييدي للثورة بهذا التدخل، ولن أغير رأيي بالثوار، وأكثر من ذلك فالثورة لا يضيرها أي دعم ما لم يكن مشروطاً.
وللدكتور عزمي بشارة رأي بأن الدعم بحد ذاته لا مشكلة فيه، لأنه يمكن وبكل بساطة أن نقول لمن دعمنا هنا أو هناك شكراً لك لكن لا تفرض شروطك علينا، وأن المشكلة كانت طوال الوقت في الحكام العرب الذين كانوا يشعرون بأن وجودهم مرتبط بالوفاء للأمريكان وخدمتهم.
إذن يا أستاذ عبد الباري عطوان الشعب الليبي أمام خيارين: إما مستبد ومستعمر وبلد مفكك وفاشل وإما ثورة واستعانة بأي مساعدة غير مشروطة، وإن كنا نتمنى أن يكون الانتصار بأيد ليبية وعربية صرفة لكن بكل تأكيد فالخيار الثاني يجب أن نقبله جميعاً، ولنتذكر دوماً أن الطاغية الذي يقبل بتقسيم بلده أو يدعو المستعمر للقدوم إلى بلده من أجل أن يحافظ على بقاء أسرته بالسلطة هو وحده من يتحمل مسؤولية كل ما يحصل في ليبيا.
الخميس، 10 مارس 2011
ثورة اللاجئين: فرص النجاح والفشل
مع دخولنا عصر الثورات في العالم العربي بدأ الكل يروج لقضايا يؤمن بها، وبات الانترنت والفيسبوك مجالاً رحباً لهذه الدعوات، فهذه وسائل اتصال العصر التي لا تحدها قيود والتي أثبتت دوراً مهماً بنجاح الثورات العربية، فنجد على الساحة الفلسطينية من يحرض أهل غزة للثورة على حماس، ومن يحرض أهل الضفة للثورة على فتح، ومن يحرض أهل الضفة وغزة للثورة على حماس وفتح معاً، ومن يحرض الشعب للثورة على شركة جوال.
إلا أن أهم دعوة وأكثرها جدية هي ثورة اللاجئين، حيث أنها توحد الشعب الفلسطيني على هدف لا خلاف عليه، وما كانت الثورات في مصر وليبيا وتونس لتنجح لولا إجماع الشعوب في هذه البلدان على أن الإصلاح لا يأتي إلا برحيل الطغاة والأصنام.
ولا يوجد قضية يجمع عليها الشعب الفلسطيني مثل حق عودة اللاجئين إلى ديارهم، وبالرغم من مرور أكثر من ستين عاماً على قضية اللاجئين إلا أن الشعب الفلسطيني بعمومه ما زال متمسكاً وبقوة بحق العودة، وهي لب الصراع مع الكيان الصهيوني، ولذا يجمع الصهاينة على موقف أنه لن يسمحوا برجوع ولو لاجئ فلسطيني واحد لأن هذا يعني عملياً نهاية الكيان الصهيوني.
كانت عودة اللاجئين مجرد حلم لسنوات طويلة، والكثيرين أصيبوا باليأس التام، إلا أن ثورات تونس ومصر وليبيا أعادت بث الأمل بين الناس، بأنه يمكن ترجمة هذا الحلم إلى حقيقة، فبدأت الدعوات لثورة اللاجئين بالظهور على الفيسبوك وبدأ الترويج لهذه الفكرة على الانترنت.
ويجب التأكيد هنا على أن الفيسبوك والانترنت ليست إلا وسائل اتصال وتواصل وتنسيق لا أكثر، ولا يجب أن نقع بوهم قدرة هذه الوسائل وحدها أن تغير موازين القوى على الأرض، لذا لا بد من وجود جهات وأفراد في الميدان يتبنون الفكرة وإلا فلن يكتب لها النجاح.
كما يجب أن ندرك اختلاف الحالة الفلسطينية عن الحالات العربية، فإن كان الشعب الليبي يعاني الأمرين من بضع آلاف من المرتزقة الذي يلتفون حول القذافي ففي فلسطين هنالك خمسة ملايين ونصف المليون مرتزق، هم الصهاينة الذين يقوم عليهم المشروع الصهيوني.
لذا يجب أن نتوقع عقبات كبيرة أمام فكرة ثورة اللاجئين، ولا نقول هذا بثاً للإحباط بل لنكون على علم بما يواجهنا، وفي المقابل فنجاح الفكرة ونجاح ثورة اللاجئين ستقلب معادلة الصراع مع الكيان الصهيوني رأساً على عقب، ولا نقول ستحرر فلسطين فهذه مهمة أكبر من أن نحققها من خلال ثورة أو انتفاضة، لكنها ستكون قفزة مهمة وكبيرة باتجاه هذا الهدف، وتجعل الكلام عن تحرير فلسطين أمراً واقعياً وليس مجرد حلم.
المعوقات أمام ثورة اللاجئين:
1- قوة الاحتلال الصهيوني: فجيش الاحتلال مستعد لاستخدام أعلى درجات القوة لقمع أي مسيرات لعودة اللاجئين، مهما كانت سلمية، فالجندي الصهيوني لا توجد لديه أي روادع أخلاقية تمنعه من قتل متظاهر فلسطيني أو عربي أعزل، والحجة دائماً جاهزة أنه يدافع عن نفسه ضد الإرهاب.
2- النزاع الحزبي: هنالك مخاوف من أن يصبح هنالك تشكيك بهذه الثورة من قبل فتح (أو حماس) في حال تبناها الطرف الآخر، ولذا من الضروري أن تبقى الدعوة لهذه الثورة بعيدة عن حماس وفتح في المراحل الأولى، وبعد أن يتبناها الجميع فليكن تنافساً بينهم من أجل خدمة الثورة.
3- خوف الناس وعدم اقتناعهم: الكثير من الناس لن يقتنع بالفكرة، وذلك لطول الأمد الذي مر على عدم حل قضية اللاجئين، و لطبيعة العدو الصهيوني واستعداده لاستخدام القوة الوحشية من أجل قمع الثورة، ولذا يجب توعية الناس بأهمية الثورة وما هي الإمكانيات التي يمكن أن تحققها بشكل واقعي وبعيداً عن لغة الأماني والخطابات العاطفية.
4- كلام المثبطين: إلى جانب غير المقتنعين أو المترددين سنجد مجموعات من المثبطين، التي تريد إفشال الثورة لأنها تتعارض مع أجنداتهم الخاصة، فسنجد من أبواق الأنظمة العربية أو الإعلام الغربي أو الصهاينة أنفسهم من يعمل على التثبيط من همم الناس، وسنجد طروحات كثيرة مثل: "كيف سيقبل اللاجئون بحمل هويات صهيونية في حال عادوا إلى أرضهم؟ وفلسطين لا يوجد فيها متسع لكل هؤلاء البشر؟ والصهاينة لن يقبلوا بعودة أحد ولا أحد يستطيع إجبارهم"، وما إلى ذلك.
مثل هذا الكلام سمعناه أثناء المطالبة بسقوط مبارك، وقيل الدستور لا يسمح وأمريكا لن تقبل، والناس كان جوابها واضح: "لا يهمنا كيف يرحل مبارك المهم أن يرحل"، وجوابنا يجب أن يكون واضحاً: "لا يهم كيف يعود اللاجئون المهم أن يعودوا".
الخطوات التي يجب السير عليها:
لكي تنجح ثورة اللاجئين يجب الأخذ بعين الاعتبار عدة خطوات نعرض أبرزها:
1- تبني فكرة واضحة وبسيطة: الشعب يريد عودة اللاجئين، لا نريد تعقيد الطرح، ولا الدخول بقرارات الأمم المتحدة التي ستدخلنا في نقاش بين مؤيد لتبنيها ومعارض لها، ولا نريد الكلام عن الانقسام أو من كان سبباً بتضييع قضية اللاجئين، فقط نريد عودة اللاجئين الذين طردوا ظلماً وعدواناً من أرضهم.
2- يجب أن تكون الفكرة متجاوزة للحزبية: لا نريد أن تكون مجداً لحماس ولا لفتح ولا لتنظيمات اليسار الفلسطيني أو غيرهم، هذه فكرة يتبناها الجميع من أجل مصلحة الجميع، ومثلما توحد كل الشعب التونسي وكل الشعب المصري وكل الشعب الليبي على تناقضاتهم واختلافاتهم الشديدة، يجب أن نتوحد من أجل هدف واحد ووحيد وهو عودة اللاجئين. إما ننجح جميعاً أو نفشل جميعاً.
3- تجذير الفكرة في نفوس الناس: يجب الخروج من فضاء الانترنت، والضغط على الفضائيات الفلسطينية والعربية لعرض الفكرة والترويج لها، والضغط على التنظيمات السياسية لقبولها (مع التأكيد على حرمة اختطاف أي تنظيم للفكرة)، والترويج لها بين الناس حتى يتبنى الفكرة أوسع قاعدة شعبية ممكنة، ولا يجب أن تقتصر الدعوة للمشاركة على اللاجئين أو على الفلسطينيين بل يجب أن تمتد إلى الشعوب العربية وكافة المتعاطفين مع الشعب الفلسطيني، فالمعركة أكبر من طاقة الشعب الفلسطيني وحده.
4- بعد تبني الفكرة يتولى الجميع تنظيم فعاليات وكل من موقعه ووفق الإمكانيات المتاحة له، مع الاتفاق على خطوط عامة تكون دستوراً للجميع لا يخرج عنها أحد، مثل توحيد الشعارات حول حق العودة، وتحديد تاريخ التحركات (في 15/5 مثلاً)، ورفع العلم الفلسطيني وحده.
5- يجب فتح أكبر عدد ممكن من الساحات: تنظيم مظاهرات أمام السفارات الصهيونية في أوروبا والغرب والمطالبة بحق عودة اللاجئين. زحف اللاجئون إلى فلسطين المحتلة انطلاقاً من الضفة والقطاع، وربما تكون تحركات من داخل الضفة تجاه المستوطنات في الضفة، والانطلاق من لبنان والأردن وسوريا تجاه فلسطين المحتلة، مع وضع خطط بديلة في حال كان هنالك ممانعة رسمية وحكومية في هذه البلدان للتحرك.
ترتيب تحركات داخل فلسطين المحتلة عام 1948 مثل أن يذهب أهلنا هناك إلى القرى المهجرة وبناء وحدات سكنية للاجئين (للعلم يوجد ربع مليون لاجئ يعيشون داخل الكيان الصهيوني ويمنعوا من العودة إلى قراهم)، وأخيراً هنالك العودة من خلال أسطول السفن ومن المقرر أن تتحرك قافلة الحرية 2 إلى قطاع غزة في هذا التاريخ، ومن المجدي دراسة فكرة تحويل مسار القافلة (أو جزء منها) للعودة إلى فلسطين المحتلة حاملة عدداً من اللاجئين.
لا يجب أن تقتصر الثورة على الضفة الغربية وقطاع غزة، لأن قدرات أهل الضفة والقطاع وصلت إلى حدودها القصوى في الصراع مع الكيان الصهيوني، يجب فتح جبهات جديدة مع الكيان ترهقه وتستنزفه.
6- البناء على التحرك وإدامته: لا يجب أن يكون التحرك ليوم واحد وينتهي الأمر، يجب أن يكون هذا التحرك بداية لثورة حقيقية، وإلا فلن يكون أكثر من مجرد احتفالية للتذكير بحق عودة اللاجئين، يجب أن تكون البداية لسلسلة فعاليات وأن يكون واضحاً للقاصي والداني أن التحركات لن تنتهي إلا بحل مشكلة اللاجئين وبشكل نهائي، لا نريد وعود ولا مفاوضات ولا مجلس أمن، لن تنتهي التحركات إلا بعد حل مشكلة اللاجئين.
7- خطوات عملية: حتى يشعر العالم بالثورة ويتحرك للضغط على الكيان الصهيوني، وحتى يشعر الكيان بالمأزق، لا يقبل الاكتفاء بالاعتصام عند الحدود، يجب اقتحامها وتحطيم الجدران والأسلاك الشائكة والدخول إلى فلسطين ولو لوقت مؤقت، فبدون أن يشعر الكيان بأزمة تقلقه وتهزه فلن نكون قد حققنا شيء.
الفرص التي تفتحها ثورة اللاجئين:
حتى لا نكون متفائلين أكثر من اللزوم، أو نكون واقعيين إلى حد الإحباط سنحاول رسم الآفاق التي تفتحها مثل ثورة اللاجئين في حال نجحت وتبناها الناس ومضوا إلى أقصى ما يمكنهم تحقيقه:
• إعادة الصراع مع الكيان إلى جذوره: أي فتح قضية اللاجئين، وبدلاً من أن تكون جهود العالم والوسطاء والإعلام منصباً على إنهاء الاحتلال للضفة والقطاع ستصبح قضية اللاجئين هي قضية العالم التي يريد إنهاءها، وحل قضية اللاجئين يعني موت المشروع الصهيوني العنصري.
• فتح آفاق جديدة للحراك: بدلاً من وجود جبهتي الضفة والقطاع والتي تنضم لهم بين الحين والآخر جبهة الداخل الفلسطيني، يصبح أمام الصهاينة جبهات جديدة تستنزفهم، وإن كان فتح جبهات خارجية في السنوات الأخيرة يسبب حرجاً للتنظيمات الفلسطينية بسبب عدم الرغبة بالدخول في صدام مع الأنظمة العربية فاليوم تغيرت المعادلة.
فالأنظمة العربية لم تعد تجرؤ على طرح نفس مطالبها المتعجرفة إياها، وربما نشهد تغييراً في بعض الأنظمة المجاورة لفلسطين حتى تاريخ 15/5 فتتابع الأحداث أسرع مما يمكن توقعها، والشعوب العربية أصبح سقف مطالبها مرتفع، وحلفاء الكيان الصهيوني في المنطقة بدؤوا بالتساقط وأبرزهم نظام حسني مبارك.
• توحيد الشعب الفلسطيني: فمثلما وحدت انتفاضة الأقصى الشعب الفلسطيني والفصائل الفلسطينية، فمن الممكن جداً أن تنهي ثورة اللاجئين الخلافات الفلسطينية الداخلية في حال استطاعت كسر قواعد اللعبة مع الكيان الصهيوني.
• تخفيف الضغوط الغربية والدولية على الشعب الفلسطيني: فكما نرى اليوم غزة محاصرة والسلطة في الضفة تخضع لضغوط تجبرها على السير وفق خطوات مرسومة أمريكياً، وفي حال استطاعت ثورة اللاجئين كسر قواعد اللعبة مع الكيان الصهيوني فسيزول الحصار ولن يعود مجدياً الضغط على سلطة الضفة.
في الختام:
ثورة اللاجئين اليوم مجرد فكرة وفرصة، تحتاج لمن يحملها ويتبناها، وتحتاج لأن تتفاعل معها جموع الشعب الفلسطيني، وإلا فإن مصيرها الفشل مثل باقي الأفكار التي ولدت وماتت على الانترنت.
إلا أن أهم دعوة وأكثرها جدية هي ثورة اللاجئين، حيث أنها توحد الشعب الفلسطيني على هدف لا خلاف عليه، وما كانت الثورات في مصر وليبيا وتونس لتنجح لولا إجماع الشعوب في هذه البلدان على أن الإصلاح لا يأتي إلا برحيل الطغاة والأصنام.
ولا يوجد قضية يجمع عليها الشعب الفلسطيني مثل حق عودة اللاجئين إلى ديارهم، وبالرغم من مرور أكثر من ستين عاماً على قضية اللاجئين إلا أن الشعب الفلسطيني بعمومه ما زال متمسكاً وبقوة بحق العودة، وهي لب الصراع مع الكيان الصهيوني، ولذا يجمع الصهاينة على موقف أنه لن يسمحوا برجوع ولو لاجئ فلسطيني واحد لأن هذا يعني عملياً نهاية الكيان الصهيوني.
كانت عودة اللاجئين مجرد حلم لسنوات طويلة، والكثيرين أصيبوا باليأس التام، إلا أن ثورات تونس ومصر وليبيا أعادت بث الأمل بين الناس، بأنه يمكن ترجمة هذا الحلم إلى حقيقة، فبدأت الدعوات لثورة اللاجئين بالظهور على الفيسبوك وبدأ الترويج لهذه الفكرة على الانترنت.
ويجب التأكيد هنا على أن الفيسبوك والانترنت ليست إلا وسائل اتصال وتواصل وتنسيق لا أكثر، ولا يجب أن نقع بوهم قدرة هذه الوسائل وحدها أن تغير موازين القوى على الأرض، لذا لا بد من وجود جهات وأفراد في الميدان يتبنون الفكرة وإلا فلن يكتب لها النجاح.
كما يجب أن ندرك اختلاف الحالة الفلسطينية عن الحالات العربية، فإن كان الشعب الليبي يعاني الأمرين من بضع آلاف من المرتزقة الذي يلتفون حول القذافي ففي فلسطين هنالك خمسة ملايين ونصف المليون مرتزق، هم الصهاينة الذين يقوم عليهم المشروع الصهيوني.
لذا يجب أن نتوقع عقبات كبيرة أمام فكرة ثورة اللاجئين، ولا نقول هذا بثاً للإحباط بل لنكون على علم بما يواجهنا، وفي المقابل فنجاح الفكرة ونجاح ثورة اللاجئين ستقلب معادلة الصراع مع الكيان الصهيوني رأساً على عقب، ولا نقول ستحرر فلسطين فهذه مهمة أكبر من أن نحققها من خلال ثورة أو انتفاضة، لكنها ستكون قفزة مهمة وكبيرة باتجاه هذا الهدف، وتجعل الكلام عن تحرير فلسطين أمراً واقعياً وليس مجرد حلم.
المعوقات أمام ثورة اللاجئين:
1- قوة الاحتلال الصهيوني: فجيش الاحتلال مستعد لاستخدام أعلى درجات القوة لقمع أي مسيرات لعودة اللاجئين، مهما كانت سلمية، فالجندي الصهيوني لا توجد لديه أي روادع أخلاقية تمنعه من قتل متظاهر فلسطيني أو عربي أعزل، والحجة دائماً جاهزة أنه يدافع عن نفسه ضد الإرهاب.
2- النزاع الحزبي: هنالك مخاوف من أن يصبح هنالك تشكيك بهذه الثورة من قبل فتح (أو حماس) في حال تبناها الطرف الآخر، ولذا من الضروري أن تبقى الدعوة لهذه الثورة بعيدة عن حماس وفتح في المراحل الأولى، وبعد أن يتبناها الجميع فليكن تنافساً بينهم من أجل خدمة الثورة.
3- خوف الناس وعدم اقتناعهم: الكثير من الناس لن يقتنع بالفكرة، وذلك لطول الأمد الذي مر على عدم حل قضية اللاجئين، و لطبيعة العدو الصهيوني واستعداده لاستخدام القوة الوحشية من أجل قمع الثورة، ولذا يجب توعية الناس بأهمية الثورة وما هي الإمكانيات التي يمكن أن تحققها بشكل واقعي وبعيداً عن لغة الأماني والخطابات العاطفية.
4- كلام المثبطين: إلى جانب غير المقتنعين أو المترددين سنجد مجموعات من المثبطين، التي تريد إفشال الثورة لأنها تتعارض مع أجنداتهم الخاصة، فسنجد من أبواق الأنظمة العربية أو الإعلام الغربي أو الصهاينة أنفسهم من يعمل على التثبيط من همم الناس، وسنجد طروحات كثيرة مثل: "كيف سيقبل اللاجئون بحمل هويات صهيونية في حال عادوا إلى أرضهم؟ وفلسطين لا يوجد فيها متسع لكل هؤلاء البشر؟ والصهاينة لن يقبلوا بعودة أحد ولا أحد يستطيع إجبارهم"، وما إلى ذلك.
مثل هذا الكلام سمعناه أثناء المطالبة بسقوط مبارك، وقيل الدستور لا يسمح وأمريكا لن تقبل، والناس كان جوابها واضح: "لا يهمنا كيف يرحل مبارك المهم أن يرحل"، وجوابنا يجب أن يكون واضحاً: "لا يهم كيف يعود اللاجئون المهم أن يعودوا".
الخطوات التي يجب السير عليها:
لكي تنجح ثورة اللاجئين يجب الأخذ بعين الاعتبار عدة خطوات نعرض أبرزها:
1- تبني فكرة واضحة وبسيطة: الشعب يريد عودة اللاجئين، لا نريد تعقيد الطرح، ولا الدخول بقرارات الأمم المتحدة التي ستدخلنا في نقاش بين مؤيد لتبنيها ومعارض لها، ولا نريد الكلام عن الانقسام أو من كان سبباً بتضييع قضية اللاجئين، فقط نريد عودة اللاجئين الذين طردوا ظلماً وعدواناً من أرضهم.
2- يجب أن تكون الفكرة متجاوزة للحزبية: لا نريد أن تكون مجداً لحماس ولا لفتح ولا لتنظيمات اليسار الفلسطيني أو غيرهم، هذه فكرة يتبناها الجميع من أجل مصلحة الجميع، ومثلما توحد كل الشعب التونسي وكل الشعب المصري وكل الشعب الليبي على تناقضاتهم واختلافاتهم الشديدة، يجب أن نتوحد من أجل هدف واحد ووحيد وهو عودة اللاجئين. إما ننجح جميعاً أو نفشل جميعاً.
3- تجذير الفكرة في نفوس الناس: يجب الخروج من فضاء الانترنت، والضغط على الفضائيات الفلسطينية والعربية لعرض الفكرة والترويج لها، والضغط على التنظيمات السياسية لقبولها (مع التأكيد على حرمة اختطاف أي تنظيم للفكرة)، والترويج لها بين الناس حتى يتبنى الفكرة أوسع قاعدة شعبية ممكنة، ولا يجب أن تقتصر الدعوة للمشاركة على اللاجئين أو على الفلسطينيين بل يجب أن تمتد إلى الشعوب العربية وكافة المتعاطفين مع الشعب الفلسطيني، فالمعركة أكبر من طاقة الشعب الفلسطيني وحده.
4- بعد تبني الفكرة يتولى الجميع تنظيم فعاليات وكل من موقعه ووفق الإمكانيات المتاحة له، مع الاتفاق على خطوط عامة تكون دستوراً للجميع لا يخرج عنها أحد، مثل توحيد الشعارات حول حق العودة، وتحديد تاريخ التحركات (في 15/5 مثلاً)، ورفع العلم الفلسطيني وحده.
5- يجب فتح أكبر عدد ممكن من الساحات: تنظيم مظاهرات أمام السفارات الصهيونية في أوروبا والغرب والمطالبة بحق عودة اللاجئين. زحف اللاجئون إلى فلسطين المحتلة انطلاقاً من الضفة والقطاع، وربما تكون تحركات من داخل الضفة تجاه المستوطنات في الضفة، والانطلاق من لبنان والأردن وسوريا تجاه فلسطين المحتلة، مع وضع خطط بديلة في حال كان هنالك ممانعة رسمية وحكومية في هذه البلدان للتحرك.
ترتيب تحركات داخل فلسطين المحتلة عام 1948 مثل أن يذهب أهلنا هناك إلى القرى المهجرة وبناء وحدات سكنية للاجئين (للعلم يوجد ربع مليون لاجئ يعيشون داخل الكيان الصهيوني ويمنعوا من العودة إلى قراهم)، وأخيراً هنالك العودة من خلال أسطول السفن ومن المقرر أن تتحرك قافلة الحرية 2 إلى قطاع غزة في هذا التاريخ، ومن المجدي دراسة فكرة تحويل مسار القافلة (أو جزء منها) للعودة إلى فلسطين المحتلة حاملة عدداً من اللاجئين.
لا يجب أن تقتصر الثورة على الضفة الغربية وقطاع غزة، لأن قدرات أهل الضفة والقطاع وصلت إلى حدودها القصوى في الصراع مع الكيان الصهيوني، يجب فتح جبهات جديدة مع الكيان ترهقه وتستنزفه.
6- البناء على التحرك وإدامته: لا يجب أن يكون التحرك ليوم واحد وينتهي الأمر، يجب أن يكون هذا التحرك بداية لثورة حقيقية، وإلا فلن يكون أكثر من مجرد احتفالية للتذكير بحق عودة اللاجئين، يجب أن تكون البداية لسلسلة فعاليات وأن يكون واضحاً للقاصي والداني أن التحركات لن تنتهي إلا بحل مشكلة اللاجئين وبشكل نهائي، لا نريد وعود ولا مفاوضات ولا مجلس أمن، لن تنتهي التحركات إلا بعد حل مشكلة اللاجئين.
7- خطوات عملية: حتى يشعر العالم بالثورة ويتحرك للضغط على الكيان الصهيوني، وحتى يشعر الكيان بالمأزق، لا يقبل الاكتفاء بالاعتصام عند الحدود، يجب اقتحامها وتحطيم الجدران والأسلاك الشائكة والدخول إلى فلسطين ولو لوقت مؤقت، فبدون أن يشعر الكيان بأزمة تقلقه وتهزه فلن نكون قد حققنا شيء.
الفرص التي تفتحها ثورة اللاجئين:
حتى لا نكون متفائلين أكثر من اللزوم، أو نكون واقعيين إلى حد الإحباط سنحاول رسم الآفاق التي تفتحها مثل ثورة اللاجئين في حال نجحت وتبناها الناس ومضوا إلى أقصى ما يمكنهم تحقيقه:
• إعادة الصراع مع الكيان إلى جذوره: أي فتح قضية اللاجئين، وبدلاً من أن تكون جهود العالم والوسطاء والإعلام منصباً على إنهاء الاحتلال للضفة والقطاع ستصبح قضية اللاجئين هي قضية العالم التي يريد إنهاءها، وحل قضية اللاجئين يعني موت المشروع الصهيوني العنصري.
• فتح آفاق جديدة للحراك: بدلاً من وجود جبهتي الضفة والقطاع والتي تنضم لهم بين الحين والآخر جبهة الداخل الفلسطيني، يصبح أمام الصهاينة جبهات جديدة تستنزفهم، وإن كان فتح جبهات خارجية في السنوات الأخيرة يسبب حرجاً للتنظيمات الفلسطينية بسبب عدم الرغبة بالدخول في صدام مع الأنظمة العربية فاليوم تغيرت المعادلة.
فالأنظمة العربية لم تعد تجرؤ على طرح نفس مطالبها المتعجرفة إياها، وربما نشهد تغييراً في بعض الأنظمة المجاورة لفلسطين حتى تاريخ 15/5 فتتابع الأحداث أسرع مما يمكن توقعها، والشعوب العربية أصبح سقف مطالبها مرتفع، وحلفاء الكيان الصهيوني في المنطقة بدؤوا بالتساقط وأبرزهم نظام حسني مبارك.
• توحيد الشعب الفلسطيني: فمثلما وحدت انتفاضة الأقصى الشعب الفلسطيني والفصائل الفلسطينية، فمن الممكن جداً أن تنهي ثورة اللاجئين الخلافات الفلسطينية الداخلية في حال استطاعت كسر قواعد اللعبة مع الكيان الصهيوني.
• تخفيف الضغوط الغربية والدولية على الشعب الفلسطيني: فكما نرى اليوم غزة محاصرة والسلطة في الضفة تخضع لضغوط تجبرها على السير وفق خطوات مرسومة أمريكياً، وفي حال استطاعت ثورة اللاجئين كسر قواعد اللعبة مع الكيان الصهيوني فسيزول الحصار ولن يعود مجدياً الضغط على سلطة الضفة.
في الختام:
ثورة اللاجئين اليوم مجرد فكرة وفرصة، تحتاج لمن يحملها ويتبناها، وتحتاج لأن تتفاعل معها جموع الشعب الفلسطيني، وإلا فإن مصيرها الفشل مثل باقي الأفكار التي ولدت وماتت على الانترنت.
الاثنين، 7 مارس 2011
أمور تهم الحكام العرب كشفت عنها الثورة الليبية
عندما اندلعت الثورة التونسية بدأت التساؤلات عن قدرتها على الامتداد عبر العالم العربي، وظن بعض الحكام العرب أن تقديم رشاوى اقتصادية كفيل بحل المشكلة، ليأتي الجواب سريعاً باندلاع الثورة المصرية لتقول للجميع أن زمن الثورات العربية ما زال في بدايته، وأن أسباب الغضب الجماهيري ليست اقتصادية بل هي في الدرجة الأولى أسباب سياسية بامتياز.
بدأنا بعدها نسمع عن نية حكومات عربية القيام باصلاحات سياسية إلى جانب الإصلاحات الاقتصادية (وهذه الأخيرة أصبحت ديكوراً لا بد منه عند الحديث عن الإصلاح)، وربما أكثرها جدية دعوة مسعود البرزاني لانتخابات تشريعية ورئاسية مبكرة في أقليم كوردستان العراق بعد أكثر من أسبوعين متواصلين من المظاهرات في العراق عموماً (وفي كوردستان خصوصاً) ضد الفساد والاستبداد المستشري.
مع ذلك فما زال الكثير من الحكام العرب يتعاملون مع مفاهيم خاطئة لتأتي ثورة الشعب الليبي لتدحض بعض النظريات التي رددها الكثيرون، وسنحاول عرض هذه النظريات فيما يلي:
الثورات تستهدف عملاء أمريكا:
ردد الكثيرون بأن الثورات تستهدف عملاء أمريكا بالمنطقة، مستدلين على سقوط أكبر نظامين مواليين لأمريكا (تونس ومصر) وبدأت مؤشرات الثورة تهدد أنظمة أخرى موالية (اليمن والأردن)। وإن كانت العلاقة مع أمريكا سبباً لغضب الجماهير، وخاصة عندما يكون النظام فاقداً لأي رسالة يحملها وعندما تكون هذه العلاقة على حساب أمن وكرامة المواطن، إلا أنه من الخطأ الظن أن الوقوف في المعسكر المعادي لأمريكا يشكل حامياً وضماناً من حصول ثورة شعبية ضد النظام.
ونظام القذافي هو دليل صارخ على خطأ هذا التفكير، فعداء القذافي لأمريكا قديم ومعروف، واصطدم معها في الثمانينات والتسعينات، وبالرغم من أنه تم تدجينه عام 2003م عندما قبل بتفكيك برنامج أسلحة الدمار الشامل والتوقف عن دعم التنظيمات التي تصنفها أمريكا على أنها إرهابية، إلا أنه بقيت له مواقف محسوبة على تيار المقاومة والممانعة وقدم الدعم المادي لغزة بعد حرب الفرقان وشارك بقمة قطر بعيد الحرب.
لكن كل هذه المواقف لم تشفع له أمام شعبه، ويجب على كل نظام عربي يراهن على مواقفه السياسية المشرفة أن ينتبه فهذه المواقف لا تشكل حصانة له مطلقاً، ربما تؤجل لحظة الانفجار لعدة أسابيع أو أشهر، لكن اليوم مطالب الشعوب وسقف تطلعاتها مرتفع للغاية، ولم يعودوا يقبلون بالمقايضات: "إما مقاومة واستبداد أو حرية وعمالة"، و"إما أمن واستقرار واستبداد أو حرية وفوضى وفلتان أمني"، الناس اليوم تريد كل شيء: تريد كرامة وتريد مشاركة باتخاذ القرار وتريد مقاومة وتريد صمود وتريد تنمية وتريد محاربة الفساد، لا مبرر لحرمانهم من هذه المطالب المشروعة.
استباق الثورات باصلاحات محدودة يكفي:
شهدت ليبيا في السنوات القليلة الماضية اصلاحات سياسية محدودة، كان يحركها سيف الاسلام القذافي، ومن بينها التعاطي مع المراجعات الفكرية لقادة الجماعة الإسلامية المسجونين والإفراج التدريجي عنهم، وللمفارقة أفرجت عن آخر دفعة منهم قبيل الثورة بأيام قليلة، وكان هنالك بعض أشكال الانفتاح السياسي للنظام وقلت الممارسات الوحشية بعض الشيء، فلم نعد نسمع عن مذابح بحجم مذبحة سجن بوسليم التي وقعت أواسط التسعينات.
لكن كل هذا لم يعن الشعب الليبي في شيء، بل وجدناهم يخرجون في المسيرات مطالبين بإسقاط النظام قبل يومين من الموعد المقرر، مما يدل على درجة القرف من النظام ومن استمرار القذافي على كرسي الحكم لمدة اثنين وأربعين عاماً، وذلك رغم الوعود الاقتصادية ومشاريع إسكان بمليارات الدولارات أطلقت في خطوة استباقية بعيد الثورة التونسية، وذلك لأن الوعود لم تعد تعني شيئاً للناس.
لذا يجب على كل الحكام وأصحاب القرار أن يدركوا التغيرات الكبيرة في وعي الشعوب العربية، فهذه الشعوب لم يعد يرضيها الوعود وهي تقول ما لم نمسك الانجازات أو الإصلاحات بأيدينا ونراها بأعيننا فلا وجود لها، ولا رصيد لأي وعود تطلق مهما بدت جدية، كما أن الشعوب في زمن الثورات يصبح صبرها قصيراً ومزاجها نزقاً، لا تقبل بأنصاف الحلول أو أرباع الإصلاحات ولا التنازلات بالقطارة أو المفرق، إن لم تكن اصلاحات جوهرية وشاملة وفورية وتمس رأس الهرم السياسي، فلا وزن لها ولا اعتبار لها عند الشعوب.
كما أن مطالب الشعوب طبيعتها تصاعدية، يزداد سقفها مع مرور الزمن، وتزداد حدتها مع تلكؤ النظام بالاستجابة لها، وفي ظل أن الشعوب باتت تدرك لقدراتها وإمكانيتها فلا يصبح أمام الحكام العرب إلا الاستجابة الشاملة للمطالب الشعبية وعلى رأسها الاصلاحات التي تطال رأس النظام، ما لم تمس الإصلاحات رأس النظام فهي عبث، وإلا فليتوقع كل نظام عربي مصير من قبله، ولا أنصح أحد بترداد مقولة: "لسنا تونس ولسنا مصر ولسنا ليبيا"، فما دام أغلبية سكانك يتكلمون بلغة الضاد فبلدك هو تونس ومصر وليبيا، وربما تمتد الظاهرة إلى ما وراء بلاد لغة الضاد.
يوجد خيارات أخرى للتعامل مع الثورات غير الاستجابة لمطالبها:
قد يفكر البعض بأنه كان بإمكان مبارك قمع الثورة المصرية باستخدام القوة المفرطة وذبح الآلاف من المصريين، وهذا ما كان يأمله الصهاينة وعدداً من الكتاب الغربيين، لكن القذافي أراحكم من عناء التفكير بهذه الاحتمالية، واستخدم كل ما يمكن استخدامه ضد الثورة وضد المتظاهرين، واستخدم الطيران والقذائف المضادة للطيران ضد المتظاهرين وضد الثوار.
فكانت أول نتائج استخدام القوة المفرطة والوحشية هو تفكك الجيش الليبي والمؤسسة الأمنية، وانضمام غالبية أفرادها إلى الثورة والثوار، فلا أحد منهم يقبل أن يقتل أبناء شعبه من أجل "العائلة الحاكمة"، ولم يبقى في محيط القذافي إلا دائرة ضيقة من المقربين وقوات المرتزقة الأجانب، وهؤلاء لن ينفعوه في المفاصل الحاسمة لأنه لا أحد منهم مستعد لأن يضحي بنفسه من أجل راتب يتقاضاه من القذافي.
ولذا نجد قوات الثوار تتقدم كل يوم وتحرر منطقة جديدة في ليبيا، بالرغم من قلة خبرتهم وتدريبهم والتنظيم الارتجالي، فهم يمتلكون معنويات عالية وعقيدة ورسالة واضحة يحاربون من أجلها، وكل ما استطاع القذافي تحقيقه من خلال القوة العارية هو تأجيل سقوط نظامه بضع أيام وإطالة المعركة، وبدلاً من السقوط مرة واحدة يريد أن يحارب "بيت بيت ودار دار وزنقة زنقة" على حد تعبيره.
لذا يجب إعادة التفكير بكل المنظومة الفكرية التي توجه الأنظمة العربية، فلا أمن دولة ولا أجهزة أمنية ولا القوات الخاصة ولا الحرس الجمهوري ولا الحرس الملكي ولا اعتقالات منتصف الليل ولا التنصت على الهواتف ولا غلق الانترنت ولا استخدام الطيران والدبابات يمكن أن يفيد النظام، من أراد استقرار حكمه فليسعى لنيل رضى الجماهير ولو كان ثمن ذلك التنازل عن الكرسي بعد حين.
في الختام:
ربما يظن بعض الحكام أنهم بعيدين عن الثورات، وخصوصاً من لديه هامشاً من الحرية أو مشروعاً سياسياً يتصدى للهيمنة الأمريكية، والبعض حصلت لديه مظاهرات محدودة ثم انتهت وخمدت فيظن أن كل شيء انتهى، حسناً هذه كلها مظاهر كاذبة، وتحت الرماد تكمن نيران بركان قد يكون يثور بأي لحظة، ومثل البراكين والزلازل فالثورات يستحيل التنبؤ بموعدها وكثيراً ما تأتي بغتة وعلى حين غرة.
فمن كان راغباً بتجنب مصير ليبيا ومصر وتونس فأمامه طريق واضح وصريح: ادخال تغييرات شاملة وإصلاحات فورية وواسعة النطاق، بدءاً من طريقة إدارة رأس النظام وبناء نظام سياسي تعددي حقيقي، ومحاربة كل أشكال الفساد السياسي والاقتصادي، بدون ذلك فالطوفان سيأتي إن لم يكن اليوم فغداً. والسعيد من اتعظ بغيره.
بدأنا بعدها نسمع عن نية حكومات عربية القيام باصلاحات سياسية إلى جانب الإصلاحات الاقتصادية (وهذه الأخيرة أصبحت ديكوراً لا بد منه عند الحديث عن الإصلاح)، وربما أكثرها جدية دعوة مسعود البرزاني لانتخابات تشريعية ورئاسية مبكرة في أقليم كوردستان العراق بعد أكثر من أسبوعين متواصلين من المظاهرات في العراق عموماً (وفي كوردستان خصوصاً) ضد الفساد والاستبداد المستشري.
مع ذلك فما زال الكثير من الحكام العرب يتعاملون مع مفاهيم خاطئة لتأتي ثورة الشعب الليبي لتدحض بعض النظريات التي رددها الكثيرون، وسنحاول عرض هذه النظريات فيما يلي:
الثورات تستهدف عملاء أمريكا:
ردد الكثيرون بأن الثورات تستهدف عملاء أمريكا بالمنطقة، مستدلين على سقوط أكبر نظامين مواليين لأمريكا (تونس ومصر) وبدأت مؤشرات الثورة تهدد أنظمة أخرى موالية (اليمن والأردن)। وإن كانت العلاقة مع أمريكا سبباً لغضب الجماهير، وخاصة عندما يكون النظام فاقداً لأي رسالة يحملها وعندما تكون هذه العلاقة على حساب أمن وكرامة المواطن، إلا أنه من الخطأ الظن أن الوقوف في المعسكر المعادي لأمريكا يشكل حامياً وضماناً من حصول ثورة شعبية ضد النظام.
ونظام القذافي هو دليل صارخ على خطأ هذا التفكير، فعداء القذافي لأمريكا قديم ومعروف، واصطدم معها في الثمانينات والتسعينات، وبالرغم من أنه تم تدجينه عام 2003م عندما قبل بتفكيك برنامج أسلحة الدمار الشامل والتوقف عن دعم التنظيمات التي تصنفها أمريكا على أنها إرهابية، إلا أنه بقيت له مواقف محسوبة على تيار المقاومة والممانعة وقدم الدعم المادي لغزة بعد حرب الفرقان وشارك بقمة قطر بعيد الحرب.
لكن كل هذه المواقف لم تشفع له أمام شعبه، ويجب على كل نظام عربي يراهن على مواقفه السياسية المشرفة أن ينتبه فهذه المواقف لا تشكل حصانة له مطلقاً، ربما تؤجل لحظة الانفجار لعدة أسابيع أو أشهر، لكن اليوم مطالب الشعوب وسقف تطلعاتها مرتفع للغاية، ولم يعودوا يقبلون بالمقايضات: "إما مقاومة واستبداد أو حرية وعمالة"، و"إما أمن واستقرار واستبداد أو حرية وفوضى وفلتان أمني"، الناس اليوم تريد كل شيء: تريد كرامة وتريد مشاركة باتخاذ القرار وتريد مقاومة وتريد صمود وتريد تنمية وتريد محاربة الفساد، لا مبرر لحرمانهم من هذه المطالب المشروعة.
استباق الثورات باصلاحات محدودة يكفي:
شهدت ليبيا في السنوات القليلة الماضية اصلاحات سياسية محدودة، كان يحركها سيف الاسلام القذافي، ومن بينها التعاطي مع المراجعات الفكرية لقادة الجماعة الإسلامية المسجونين والإفراج التدريجي عنهم، وللمفارقة أفرجت عن آخر دفعة منهم قبيل الثورة بأيام قليلة، وكان هنالك بعض أشكال الانفتاح السياسي للنظام وقلت الممارسات الوحشية بعض الشيء، فلم نعد نسمع عن مذابح بحجم مذبحة سجن بوسليم التي وقعت أواسط التسعينات.
لكن كل هذا لم يعن الشعب الليبي في شيء، بل وجدناهم يخرجون في المسيرات مطالبين بإسقاط النظام قبل يومين من الموعد المقرر، مما يدل على درجة القرف من النظام ومن استمرار القذافي على كرسي الحكم لمدة اثنين وأربعين عاماً، وذلك رغم الوعود الاقتصادية ومشاريع إسكان بمليارات الدولارات أطلقت في خطوة استباقية بعيد الثورة التونسية، وذلك لأن الوعود لم تعد تعني شيئاً للناس.
لذا يجب على كل الحكام وأصحاب القرار أن يدركوا التغيرات الكبيرة في وعي الشعوب العربية، فهذه الشعوب لم يعد يرضيها الوعود وهي تقول ما لم نمسك الانجازات أو الإصلاحات بأيدينا ونراها بأعيننا فلا وجود لها، ولا رصيد لأي وعود تطلق مهما بدت جدية، كما أن الشعوب في زمن الثورات يصبح صبرها قصيراً ومزاجها نزقاً، لا تقبل بأنصاف الحلول أو أرباع الإصلاحات ولا التنازلات بالقطارة أو المفرق، إن لم تكن اصلاحات جوهرية وشاملة وفورية وتمس رأس الهرم السياسي، فلا وزن لها ولا اعتبار لها عند الشعوب.
كما أن مطالب الشعوب طبيعتها تصاعدية، يزداد سقفها مع مرور الزمن، وتزداد حدتها مع تلكؤ النظام بالاستجابة لها، وفي ظل أن الشعوب باتت تدرك لقدراتها وإمكانيتها فلا يصبح أمام الحكام العرب إلا الاستجابة الشاملة للمطالب الشعبية وعلى رأسها الاصلاحات التي تطال رأس النظام، ما لم تمس الإصلاحات رأس النظام فهي عبث، وإلا فليتوقع كل نظام عربي مصير من قبله، ولا أنصح أحد بترداد مقولة: "لسنا تونس ولسنا مصر ولسنا ليبيا"، فما دام أغلبية سكانك يتكلمون بلغة الضاد فبلدك هو تونس ومصر وليبيا، وربما تمتد الظاهرة إلى ما وراء بلاد لغة الضاد.
يوجد خيارات أخرى للتعامل مع الثورات غير الاستجابة لمطالبها:
قد يفكر البعض بأنه كان بإمكان مبارك قمع الثورة المصرية باستخدام القوة المفرطة وذبح الآلاف من المصريين، وهذا ما كان يأمله الصهاينة وعدداً من الكتاب الغربيين، لكن القذافي أراحكم من عناء التفكير بهذه الاحتمالية، واستخدم كل ما يمكن استخدامه ضد الثورة وضد المتظاهرين، واستخدم الطيران والقذائف المضادة للطيران ضد المتظاهرين وضد الثوار.
فكانت أول نتائج استخدام القوة المفرطة والوحشية هو تفكك الجيش الليبي والمؤسسة الأمنية، وانضمام غالبية أفرادها إلى الثورة والثوار، فلا أحد منهم يقبل أن يقتل أبناء شعبه من أجل "العائلة الحاكمة"، ولم يبقى في محيط القذافي إلا دائرة ضيقة من المقربين وقوات المرتزقة الأجانب، وهؤلاء لن ينفعوه في المفاصل الحاسمة لأنه لا أحد منهم مستعد لأن يضحي بنفسه من أجل راتب يتقاضاه من القذافي.
ولذا نجد قوات الثوار تتقدم كل يوم وتحرر منطقة جديدة في ليبيا، بالرغم من قلة خبرتهم وتدريبهم والتنظيم الارتجالي، فهم يمتلكون معنويات عالية وعقيدة ورسالة واضحة يحاربون من أجلها، وكل ما استطاع القذافي تحقيقه من خلال القوة العارية هو تأجيل سقوط نظامه بضع أيام وإطالة المعركة، وبدلاً من السقوط مرة واحدة يريد أن يحارب "بيت بيت ودار دار وزنقة زنقة" على حد تعبيره.
لذا يجب إعادة التفكير بكل المنظومة الفكرية التي توجه الأنظمة العربية، فلا أمن دولة ولا أجهزة أمنية ولا القوات الخاصة ولا الحرس الجمهوري ولا الحرس الملكي ولا اعتقالات منتصف الليل ولا التنصت على الهواتف ولا غلق الانترنت ولا استخدام الطيران والدبابات يمكن أن يفيد النظام، من أراد استقرار حكمه فليسعى لنيل رضى الجماهير ولو كان ثمن ذلك التنازل عن الكرسي بعد حين.
في الختام:
ربما يظن بعض الحكام أنهم بعيدين عن الثورات، وخصوصاً من لديه هامشاً من الحرية أو مشروعاً سياسياً يتصدى للهيمنة الأمريكية، والبعض حصلت لديه مظاهرات محدودة ثم انتهت وخمدت فيظن أن كل شيء انتهى، حسناً هذه كلها مظاهر كاذبة، وتحت الرماد تكمن نيران بركان قد يكون يثور بأي لحظة، ومثل البراكين والزلازل فالثورات يستحيل التنبؤ بموعدها وكثيراً ما تأتي بغتة وعلى حين غرة.
فمن كان راغباً بتجنب مصير ليبيا ومصر وتونس فأمامه طريق واضح وصريح: ادخال تغييرات شاملة وإصلاحات فورية وواسعة النطاق، بدءاً من طريقة إدارة رأس النظام وبناء نظام سياسي تعددي حقيقي، ومحاربة كل أشكال الفساد السياسي والاقتصادي، بدون ذلك فالطوفان سيأتي إن لم يكن اليوم فغداً. والسعيد من اتعظ بغيره.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)