ثارت ضجة كبيرة حول ما قيل عن نية الشيخ محمد العريفي زيارة مدينة القدس وبث احدى حلقات برنامجه "ضع بصمتك" والذي يبث على قناة إقرأ الفضائية مساء كل يوم جمعة، وكان مثار الجدل هو البعد التطبيعي لمثل هذه الزيارة نظراً لأنه لا يستطيع دخول القدس إلا بتصريح وتأشيرة دخول صهيونية، وما يعنيه ذلك من اعتراف بالكيان الصهيوني وبحقه في الوجود.
ولاشعال الجدل سارعت الخارجية الصهيونية للترحيب به، لتستغل الفرصة وتوحي بأنها تفتح الأبواب أمام أي مسلم يريد زيارة القدس والأقصى، فيما تقوم حكومة الاحتلال على أرض الواقع بمنع الفلسطينيين من الصلاة في الأقصى وتمنع أهل الضفة الغربية وقطاع غزة من مجرد الوصول إلى القدس المحتلة، كانت فرصة للأخيرة لتعرض الكيان وكأنه البلد الذي يخترق قلوب وعقول المسلمين، ولفت نظري تعليق لبلدية القدس:"القدس تحت راية إسرائيل مفتوحة لجميع الناس من جميع الأديان للقدوم إليها"، مع إضافة شرط: "لكن لن نسمح بأي نشاط سياسي يؤدي إلى العنف." بلدية القدس يسيطر عليها اليمين الذي لا يتقن فن الإعلام، فمن قال أن الشيخ سيتم الزيارة ويصل إلى القدس حتى تبدأوا بوضع الشروط؟
فهمت وزارة الخارجية هذا الشيء فاكتفت بالترحيب لتظهر الأمور وكأن الكيان المسالم يفتح أبوابه للجميع، أما اليمين كعادته فيحب إظهار الوجه العدائي والحقيقي للكيان الصهيوني، مع ذلك لم تسر الرياح بما تشتيهه سفنها، ولم يتقدم العريفي بطلب لتأشيرة الدخول ولم يزر القدس، وماتت الحملة الإعلامية في مهدها.
وسواء كان الداعية قد قرر الزيارة ثم تراجع أو أنه حصل لبس في فهم كلامه أدى لهذه البلبلة، فإن الضجة التي حصلت خلال الأسبوع الماضي كشفت عن وجود انقلاب في المفاهيم لدى الكثيرين وعلى نقاط خلل جوهرية ينبغي معالجتها وتفاديها.
التطبيع مع الوضع القائم:
بدايةً يجب التنويه إلى أن مكمن الخلل ليس في الزيارة بحد ذاتها، بل في الحصول على إذن الكيان الصهيوني ودخول القدس وفق شروطه واشتراطاته، وهذه نقطة من الضروري التنبيه لها لأنه قد يأتي يوم ويتمكن فيه الناس من الوصول إلى الأقصى بدون تلويث جوازاتهم بالختم الصهيوني وبدون أخذ الإذن من الصهاينة وبدون دعم اقتصادهم، سواء من خلال التهريب أو غيرها من الوسائل التي تبدو اليوم خيالية وغير ممكنة، فلا نريد أن يأتي أحد يومها ويقول لماذا حرمتم على العريفي الزيارة وحللتوها اليوم، ولكي لا يأتي البعض أمثال ذلك الرئيس المأفون الذي دافع عن حصار نظامه لقطاع غزة بحجة أن القطاع محتل ومن حق دولة الاحتلال أن تعرف ما يدخل إليه وما يخرج منه وأن رفع الحصار يرفع الحرج عن دولة الاحتلال.
والخلل الأول هو التمسك بأشكال من المقاومة دون غيرها، والتشدد في بعض جوانب الصراع مع الكيان الصهيوني والتهاون المفرط في جوانب أخرى، مما يؤدي لتفريغ المواقف من مضمونها، فتحريم أخذ تأشيرة الدخول من الكيان يأتي ضمن سياق مقاطعة الكيان الصهيوني، والمقاطعة هي احدى وسائل حصار الكيان اللقيط، والحصار وسيلة من وسائل محاربة الكيان واضعافه واستنزافه وصولاً للهدف والغاية النهائية ألا وهي إزالته عن الوجود.
وفي ظل العجز عن حرب الكيان، وفي ظل تهاون الأنظمة العربية في ميدان مقاطعة الكيان ومحاصرته ومحاربة من يدعمه اقتصادياً وسياسياً، تصبح المقاطعة الشعبية ورفض التطبيع هي شكل المقاومة الوحيد المتاح اليوم، لكن في ظل غياب وسائل المقاومة والمحاربة الأخرى تصبح فعالية مقاومة التطبيع منقوصة وغير فاعلة.
لا نقول هذا الكلام كي نتخلى عن مقاومة التطبيع، فالأصل أن نتقدم للأمام لا الرجوع إلى الوراء، وهذا يتطلب منا أن لا نقنع بما هو قائم ولا أن نكتفي بعدم اتمام زيارة العريفي، فهذا يسمى تطبيعاً مع الأمر الواقع، أمر واقع قائم على وجود الكيان الصهيوني واستمراره بتهويد الأرض وتهديد المسجد الأقصى والتهجير المستمر لأهل فلسطين وتطبيع رسمي عربي مع الكيان سياسياً واقتصادياً، والأمر مريح بهذا الشكل للصهاينة الذين يراهنون مع مرور الوقت أن تضيع فلسطين كما ضاعت الأندلس من قبلها وتصبح الفردوس المفقود الجديد، فيما نحن نرضي ذواتنا بأننا نحاصر الكيان الصهيوني شعبياً ونرفض التطبيع معه.
هل كان صلاح الدين مطبعاً:
ولو عدنا بالتاريخ إلى الحروب الصليبية لوجدنا صلاح الدين وهو يحاصر عكا يرسل طبيبه الخاص ليعالج ريتشارد قلب الأسد ملك أنجلترا الذي هرع إلى بلاد الشام بعد معركة حطين لينقذ ما تبقى من وجود صليبي ويلم شتات الصليبيين، لم يقل أحد يومها أن صلاح الدين مطبع أو أنه متخاذل أو متهاون، لأن ما قام به في حطين وتحرير القدس ودحر الصليبيين من أغلب بلاد الشام تجعل أمر العلاقات الشخصية و"تبادل الخبرات الصحية" أموراً ثانوية وعلى الهامش.
كما لم يعب صلاح الدين توقيع صلح الرملة مع الصليبيين والتي سمحت لهم بالبقاء في المنطقة الساحلية الممتدة من يافا جنوباً حتى صور شمالاً، فمن عرف لسان حاله عرفه مجاهداً محارباً للصليبيين وتوقيعه الاتفاقيات معهم لم ينظر إليه سوى أنه تكتيك من تكتيكاته الحربية والسياسية، ومن درس سيرة الملك الناصر وجده سياسياً بارعاً ومفاوضاً فذاً إضافة لسيرته العسكرية العطرة وعقليته القتالية المميزة. وملاحظة على الهامش: من يدعون اليوم أنهم فنانو المفاوضات والسياسة، هم في حقيقة الأمر بعيدون عن فقه المفاوضات والعمل السياسي بعد السماء عن الأرض.
ولا عجب أنه فقط في زمن انقلاب المفاهيم يخرج علينا بعض المؤرخين المعاصرين ليتهموا صلاح الدين بانتماءه إلى الماسونية، ودليلهم هو إرسال طبيب لعلاج ريتشارد قلب الأسد زميله في الماسونية كما يزعمون، تناسوا معاركه العديدة والتي لا تحصى مع الصليبيين وأبرزها معركة حطين التاريخية، وتناسوا تحريره للقدس وتشبثوا في شكلية وقضية هامشية وكأنها الأصل والجوهر.
لا يستوي المحسن والمسيء:
وإن كان سوء التأويل قد طال أبطالاً تاريخيين أمثال صلاح الدين فمن باب أولى أن يطال داعية مثل العريفي، وللحق فإن سوء التأويل وسطحية الفهم آفة من آفات العصر، فإن كان العريفي قال كلمة مبهمة فإن تاريخه وواقعه يشفع له بأن نأول كلامه على المحمل الحسن، لا أن نسارع بالاتهام والتخوين والتشكيك بنواياه كما فعل البعض الذي قال بأنه يهرول إلى التطبيع استجابة لدعوة وزير أوقاف السلطة محمود الهباش.
البعض اعتبر أن قرار الذهاب إلى القدس هو اجتهاد أخطأ به العريفي، وهم معذورون لأن الذهاب وعدم الذهاب فيهما مصلحتين متضاربتين: مصلحة محاربة الكيان الصهيوني ومقاطعته التي تدعم فكرة المقاطعة وعدم الذهاب، ومصلحة إعمار المسجد الأقصى وزيارته لتثبيت حق المسلمين فيه وهي تدعم فكرة الذهاب. فأن يخطأ العريفي أو غيره ويغلب المصلحة الثانية على الأولى (على خلاف ما ذهب له أغلب العلماء والسياسيين) فهو أمر طبيعي ومتوقع، ومن ظن بالعريفي هذا الأمر لم يسئ الظن.
لكن المشكلة هي في انعدام الثقة فيمن يجب أن نثق بهم، المشكلة هي أن يسيء الناس الظن بالعريفي ويظنوه مطبعاً مهرولاً بالرغم من أن تاريخه وقناعاته تنفي هذه الشبهة عنه، حتى سياق كلامه المبهم حول زيارته للقدس جاءت لنصرة القدس والحق الإسلامي في الأقصى، فكيف يرمى بسوء النية؟
العريفي ليس سلام فياض ولا حسني مبارك ولا عبد الرحمن الراشد، هؤلاء قوم أصحاب سوابق فإن قالوا كلمة كان من حق الناس الشك بكلامهم ونواياهم، فلو قال سلام فياض مثلاً أنه يرفض الإجراءات الصهيونية القمعية لحق لنا أن ننتظر منه مزيداً من التنازل أمام الصهاينة لأن تجربتنا السابقة معه تقول أنه صاحب أسبقيات. وعند حصول جريمة فإن الشرطة تبحث في ملفاتها عن أصحاب السوابق لتشك بهم وتتهمهم، ولا تتهم أصحاب الملفات النظيفة والناصعة إلا إن توفر دليل اتهام قاطع لا لبس فيه، وانتفت كل إمكانيات التبرئة.
هل يجوز محاكمة الناس على كلمات مبتورة عن سياقها أو مبتورة عن تاريخ وسجل المتكلم؟ في اعتقادي هذا منهج سطحي وغير مقبول، فالإنسان عندما يتكلم بكلمة أو بجملة فهنالك ظروف محيطة به وخلفية فكرية وقناعات تحكم تصرفه وليس فقط كلماته التي قالت. (الناس سواسية كأسنان المشط) هذا صحيح من حيث المبدأ، إلا أن أفعالهم ومواقفهم التي يكتسبوها مع مرور الأيام إما ترفعهم وإما تهبط بهم، وعليه لا يجوز أن نحاكم صاحب الملف الناصع بصاحب السوابق والأسبقيات (أفنجعل المسلمين كالمجرمين)، وكم من قائل أنه مع المقاومة الشعبية وهو يزج بأصحابها في السجون ويعذبهم وينكل بهم، وكم من قائل نحن نريد هدنة مع المحتل وهو ينكل به على أرض الواقع؟
وليست هذه أول مرة ينتصر فيها سوء التأويل، فقد تكرر الأمر مع الدكتور محمود الزهار عندما وصف بعض من يطلقون الصواريخ بالمشبوهين، وقد قالها مرتين مرة قبل عامين أو ثلاث، ومرة قبل أسابيع قليلة، وبدأ الناس بمقارنة كلامه بكلام محمود عباس، وقالوا أن جريمة عباس أدنى من جريمة الزهار فالأول وصفها بالصواريخ العبثية والثاني وصفها بالصواريخ المشبوهة، والوصف الأول أقل بشاعة من الوصف الثاني، لكن هل الواقع على الأرض يؤكد صحة هذا التحليل السطحي أم ينفيه؟
بعد تصريح الزهار الأول خاضت حماس حرباً مع الصهاينة وأطلقت الصواريخ ومزيداً من الصواريخ، وبعد تصريح الزهار الثاني وقعت عملية خانيونس وقتل فيها من قتل من جنود الاحتلال، أما محمود عباس فمن تنازل إلى تنازل، وبعد قمعه للمقاومة المسلحة في الضفة انتقل لقمع المقاومة الشعبية التي تغنى بها يوماً، واعتقل من رشق الحجارة على قوات الاحتلال في نابلس وبيت أمر وضرب وفرق المظاهرات السلمية في بيت لحم التي كانت تتواجه مع الاحتلال.
فمن أراد أن يكون تحليله واقعياً وأن يبتعد عن السطحية فالأصل أن يأول كلام الزهار وكلام العريفي بما يتناسب مع مواقف وأفعال الرجلين وقناعاتهما، والأصل أن يحاكم محمود عباس وسلام فياض بما يناسب سوابقهما وأفعالهما.
في الختام:
بينت لنا الضجة المرافقة لما قيل أنها نية العريفي زيارة القدس وجود انقلاب في المفاهيم لدى الكثير من الناس، فأصبح همهم الوحيد محاربة التطبيع مع العدو الصهيوني وتناسوا أنهم واقعين في جريمة قد لا تقل خطورة ألا وهي التطبيع مع الأمر الواقع الذي يفرضه العدو الصهيوني، قد يكون هذا مقبولاً في فترة التسعينات أو بعيد غزو العراق عندما كان العصر الأمريكي في أوجه، لكن اليوم وبعد فشل المشروع الأمريكي في العراق وأفغانستان وبعد انتصار المقاومة في لبنان وغزة، فالأصل أن نتقدم إلى الأمام لا أن نراوح أماكننا.
كما أن من انقلاب المفاهيم لدى الكثير من الناس هو استعدادهم لشطب تاريخ شخص لمجرد كلمة تحتمل أكثر من تأويل وأكثر من إمكانية للفهم، ومعاملته معاملة أصحاب السوابق ومن خبرنا أنهم من أصحاب الأفعال السيئة والهفوات غير المغتفرة، يجب أن نزن الكلمات التي نسمعها بميزان من قالها وما مراده من ورائها، فالكلمات ليست مجرد أحرف صماء لا يتغير معناها، بل هي مواقف يتغير معناها مع تغير اللسان الذي ينطق بها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق