مرت علينا قبل أيام ذكرى عشرة سنوات على
انسحاب آخر جندي صهيوني من غزة (12/9/2005م)، وذكرى مرور اثنين وعشرين عامًا على
توقيع اتفاقية أوسلو (13/9/1993م)، وعلى الرغم من أهمية حدث الانسحاب وضرورة
الاستفادة منه كأول انتصار نحصد نتائجه على الأرض، إلا أنه لم ينل الاهتمام الكافي
من البحث والدراسة.
واليوم تمر علينا الذكرى الخامسة عشرة
لاندلاع انتفاضة الأقصى والتي كانت أبرز نتائجها الانسحاب من غزة، رغم أن فكرة
الانسحاب لم تكن وليدة انتفاضة الأقصى بل طرحت أول مرة في الانتفاضة الأولى داخل حكومة
رابين اليسارية.
إلا أن رابين فضل وقتها عدم التعجل
بالانسحاب معولًا على المفاوضات مع منظمة التحرير والتي أفضت إلى اتفاقية أوسلو،
حيث حاول عرفات ترجمة نتائج الانتفاضة الأولى إلى مشروع سياسي يفضي إلى تحرير جزء
من فلسطين وإقامة دولة عليها.
لكن موازين القوى التي أخرجت أوسلو أعطتنا
حكمًا ذاتيًا تحت سقف الاحتلال ولعبة سياسية يتحكم بها الاحتلال وقيود جعلت مواصلة
عملية تحرير فلسطين أمرًا مستحيلًا.
في المقابل جاء الانسحاب عام 2005م بدون
أي اتفاقيات ومن جانب واحد، وبدلًا من أن ينتج منظومة شبيه بأوسلو أخرج لدينا
نموذجًا مقاومًا وقوة قادرة على الوقوف بندية في وجه الاحتلال، فما الذي حصل وكيف
تطورت الأمور بهذا الاتجاه؟ وإلى أين تسير القضية الفلسطينية اليوم؟
انتفاضة الأقصى واستنزاف الاحتلال
الصهيوني:
جاءت انتفاضة الأقصى كنتيجة مباشرة
لانسداد أفق التسوية السياسية بين السلطة والاحتلال، ولتصحيح خطأ عرفات التاريخي
عندما تسرع بوقف الانتفاضة الأولى مقابل تسوية ظالمة أريد لها أن تكون تصفية
للقضية الفلسطينية.
وبعد موجة شعبية استمرت لحوالي ثلاثة أشهر
انتقلت انتفاضة الأقصى إلى العمل المسلح، وكان أبرز أشكاله العمليات الاستشهادية،
وكان هنالك استنزاف للصهاينة وصعد شارون إلى رئاسة الحكومة تحت شعار أنه لا تفاهم
مع الفلسطينيين ويجب سحقهم.
كان شارون يؤمن بأنه لا فرق بين حماس وعرفات،
سوى أن حماس هي الوجه الخشن وعرفات الوجه الناعم لنفس العملة، وكان يرفض التفاوض
مع عرفات أو السلطة.
واجه شارون مقاومة شرسة عندما حاول قمع
الانتفاضة كما واجه ضغوطًا دولية من أجل العودة إلى لتفاوض مع السلطة، وللتحايل
على ذلك كان قراره الانسحاب أحادي الجانب من غزة، والعمل على إيجاد بديل فلسطيني
لياسر عرفات.
قرار الانسحاب من غزة:
كانت غزة عبئًا تاريخيًا على دولة
الاحتلال كونها منطقة كثافة سكانية عالية فلسطينية، وتحتل مساحة صغيرة (2% فقط من
فلسطين التاريخية)، ولا يوجد لها قيمة كبيرة اقتصادية أو تاريخية (من المنظور
اليهودي)، وفي المقابل كان الاحتفاظ بها منذ الانتفاضة الأولى يستنزف الكيان
الصهيوني بشكل كبير.
في المقابل تشكل الضفة الغربية القلب
الجغرافي لفلسطين التاريخية و20% من مساحتها، وتشكل مرتفعاتها عمقًا استراتيجيًا
لأماكن التواجد اليهودي في الساحل الفلسطيني، ولها بعد تاريخي كونها المكان الذي
قامت عليه دولة اليهود في العهود القديمة، كما يوجد فيها خزانات مياه جوفية وبترول
وغاز.
لهذا جاء قرار الانسحاب من غزة مع نهاية
ذروة انتفاضة الأقصى (أواخر عام 2003م) للتخلص من العبء التاريخي وللحفاظ على
الطابع اليهودي للكيان الصهيوني حيث أن عدد الفلسطينيين واليهود داخل فلسطين
التاريخية يكاد يتساوى، وأيضًا من أجل التفرغ لإنهاء الانتفاضة في الضفة الغربية.
إلا أن نقطة الخلاف التي صعدت إلى السطح
كانت حول كيفية الانسحاب، فقد أراد شارون الانسحاب من جانب واحد لأنه لم يكن
معنيًا بالتفاوض مع السلطة للأسباب السابق ذكرها، ولأنه لم يكن معنيًا بعملية
تفاوضية تضطره لتقديم تنازلات في الضفة، ويبدو أنه راهن أيضًا على غرق غزة في
خلافات داخلية بين فتح وحماس، تبقى حكومة الاحتلال بعيدة عنها.
ووقف ضده قادة الأجهزة الأمنية مثل
الشاباك والاستخبارات العسكرية (أمان)، وكان أشد المعارضين هو رئيس أركان الجيش
وقتها موشيه يعلون (وزير الدفاع الحالي) ووصل الخلاف بينه وبين شارون إلى أن يرفض
شارون تجديد موقعه في رئاسة الأركان (أي ما يشبه الطرد).
كما عارض خطة شارون للانسحاب وزير المالية
وقتها (ورئيس الحكومة الحالي) بنيامين نتنياهو والذي قدم استقالته قبل أيام من بدء
تنفيذ الانسحاب عام 2005م، وكانت وجهة نظر المعارضين تقول أنه لا يجب ترك قطاع غزة
بدون وجود جهة ما تمسك القطاع بالتفاهم مع الاحتلال، حتى لا تستفيد المقاومة وحتى
لا تظهر الأمور وكأن الاحتلال هرب من المقاومة.
لكن في النهاية فعل شارون ما يريد ونفذ
القرار وتبين لاحقًا أن تقديراته كانت خاطئة، وأن المقاومة استفادت بشكل كبير
وطورت من قدراتها العسكرية واستفادت حماس جماهيريًا بأنها أظهرت أن المقاومة هي
الخيار الناجح الوحيد في مواجهة الاحتلال الصهيوني.
ما بعد الانسحاب من غزة:
حرصت المؤسسة الأمنية الصهيونية وحكومة
الاحتلال على التقليل من النتائج "السلبية" للانسحاب من غزة وذلك من
خلال الآتي:
أولًا: فرض
حصار على قطاع غزة بحري وبري وجوي، وفرض ترتيبات على معبر رفح تؤكد حق الكيان
الصيهوني بحصار غزة (اتفاقيات المعابر والتي أنجزها دحلان)، وتعزز هذا الحصار بعد
فوز حماس بانتخابات 2006م وازداد حدة بعد الحسم عام 2007م.
ثانيًا: اللعب
على وتر حماستان في غزة وفتحستان في الضفة، وهو مقترح من مخابرات الاحتلال أواخر
عام 2005م (قبيل الانتخابات الفلسطينية)، وكان الأمل أن تفرز الانتخابات هذا
الانقسام لكن حماس فازت في الضفة وفي غزة، فكان البديل هو الفوضى الخلاقة والتي
قادت إلى الانقسام.
ثالثًا: بينما
كان مشروع الانسحاب من غزة مرتبكًا ولا يسير في مصلحة الاحتلال، كان مشروع استبدال
عرفات يسير بسلاسة وتم إيصال محمود عباس إلى رئاسة السلطة، ويحمل مشروعًا واحدًا
وهو عدم خرق السقوف التي يضعها الاحتلال.
استطاع الاحتلال بذلك تصدير مشاكله لتصبح
مشاكل فلسطينية داخلية، وبالأخص الصراع بين فتح وحماس والذي أنسى الفلسطينيين
لفترة طويلة جوهر صراعهم مع الاحتلال الصهيوني، لكن في نفس الوقت استطاعت المقاومة
الفلسطينية (وبالأخص القسام) تطوير قدراتها القتالية، وخاضت ثلاثة حروب مع
الاحتلال الصهيوني.
عززت الحروب الثلاثة قناعة المؤسسة
الأمنية ونتنياهو ويعلون بخطأ خطوة شارون، وهكذا يجب أن نفهم حصار غزة بتعاون عباس
والسيسي مع الاحتلال، على أنه محاولة لتصحيح خطأ شارون؛ سواء كان عبر إغراق غزة في
مشاكلها الداخلية أو إعادتها لحظيرة عباس، واستنزاف المقاومة حتى الرمق الأخير،
حتى لا تكون غزة قاعدة لأي حرب تحرير مستقبلية وحتى لا تكون قدوة للمقاومة في
الضفة الغربية.
الوضع في الضفة الغربية بعد الانسحاب:
قسمت إتفاقية أوسلو الضفة إلى مناطق: أ،
ب، ج؛ المنطقة (أ) سيطرة أمنية ومدنية للسلطة، والمنطقة (ب)
سيطرة مدنية للسلطة وأمنية للاحتلال، والمنطقة (ج) (60% من الضفة) سيطرة
مدنية وأمنية للاحتلال.
بعد انتفاضة الأقصى ومشروع دايتون، تغيرت الترتيبات
(رغم أن أوسلو ما زال ساريًا نظريًا) والاحتلال لم يعلن عن هذه الترتيبات لكن يمكن
استقراؤها، وأصبحت الضفة كالآتي:
أولًا: المنطقة
التي أسميها "منطقة الضم"، وهي 30% إلى 35% من مساحة الضفة، يسعى
الاحتلال لضمها إلى "دولة إسرائيل"؛ نصف هذه المنطقة تم ضمها عمليًا
(المستوطنات ومناطق ما وراء جدار الفصل العنصري) ولم يبق إلا الإعلان الرسمي عن
ذلك.
والنصف الآخر (وأغلبه في منطقة الأغوار) ما
زال فيه تواجد فلسطيني هامشي وغير دائم (تجمعات بدوية وما شابه)، والاحتلال يعمل تدريجيًا
لتنظيف هذا التواجد من أجل الضم النهائي.
ثانيًا: ما تبقى
من المنطقة ج، وهي حوالي 30% من مساحة الضفة والوجود الفلسطيني فيها قليل نسبيًا،
والاحتلال يسعى من خلال التضييق على سكان هذه المنطقة إلى تهجيرهم بشكل ناعم.
ثالثًا: المناطق
الفلسطينية (أ،ب)؛ وهي حوالي 35% من مساحة الضفة، وقد كان من نتائج الانتفاضة خروج الاحتلال منها وإعطاء
السلطة هامشًا كبيرًا للعمل فيها، مع حق الاحتلال بدخولها وتنفيذ عمليات أمنية
واعتقالات فيها دون أي قيود.
بدلًا من استغلال انسحاب الاحتلال من مناطق
الكثافة السكانية (أ، ب) من أجل ملاحقته واستنزافه في المنطقة ج، وفرت السلطة
هدوءً واستقرارًا أمنيًا مكن الاحتلال من التغول في المنطقة ج والاستفراد بمدينة
القدس والمضي قدمًا بتهويدها وتهويد المسجد الأقصى.
نتائج وعبر مما سبق:
أولًا: كانت
المقاومة وما زالت هي الطريق الوحيدة لاستنزاف الاحتلال وإجباره على تقديم تنازلات
لصالح الشعب الفلسطيني ومشروع التحرر الوطني.
ثانيًا: استطاع
الاحتلال الالتفاف على خسارته لغزة عبر تصديره المشاكل لتصبح صراعًا فلسطينيًا
داخليًا، وهذا يتطلب معالجة جذرية بإعادة إنتاج الصراع وتوجيه الطاقات ضد الاحتلال
الصهيوني، ولعل ما يحصل اليوم في القدس والأقصى فرصة ذهبية لتحقيق ذلك.
ثالثًا: استطاع
الاحتلال فصل الضفة عن غزة، وتأسيس فتحستان تحت الوصاية الصهيونية، وهنا يجب العمل
على إعادة الضفة إلى حظيرة المقاومة ورفض مشروع تدجينها ورفض النعرات الجهوية التي
تعزز من المشروع الصهيوني في الضفة.
رابعًا: رغم أن
الكثير يؤمنون بأنه لا يمكن قيام مشروع مقاومة في ظل وجود السلطة، إلا أن انتفاضة
الأقصى والانسحاب من غزة وحروب غزة الثلاثة أثبتت خطأ هذه النظرية، وأنه يمكن الانفكاك
من قيود هذه السلطة رغمًا عنها ورغمًا عن الاحتلال، بعيدًا عن النقاشات التنظيرية
حول حل السلطة أو الإبقاء عليها.
خامسًا: ما أجبر
شارون على الانسحاب من غزة هي حالة المقاومة في كل فلسطين، سواء المقاومة داخل غزة
أو داخل الضفة أو العمليات الاستشهادية، بالإضافة لحالة التضامن الدولي مع الشعب
الفلسطيني.
وهذا يعني أنه يستحيل تحقيق أي إنجازات
قادمة بجهد جزء من الشعب الفلسطيني؛ فأكبر أخطاء المرحلة الماضية كانت إلقاء عبء
المقاومة بشكل كامل تارة على غزة وتارة على المرابطين في القدس.
سادسًا: عنوان
المعركة القادمة في الضفة هو المنطقة ج من أجل البناء على ما تم إنجازه في انتفاضة
الأقصى، فبعد إخراج الاحتلال من مراكز الكثافة السكانية الفلسطينية يجب ملاحقته
واستنزافه في باقي أنحاء الضفة.
سابعًا: بعد حرب
لبنان (1982م) تم تهميش دورالشتات الفلسطيني في مقاومة الاحتلال، ولا شك أن 28
عامًا من المقاومة في الضفة وغزة قد استنزف الشعب الفلسطيني في الداخل، وبات من
الضروري إعادة إحياء دور فلسطينيو الشتات في مقاومة الاحتلال.
ما لم نر في المرحلة القادمة عملًا مقاومًا
من كافة أماكن التواجد الفلسطيني، وبدعم وإسناد عربي وإسلامي، وما لم نتجاوز الصراعات
الداخلية التي صدرها الاحتلال إلينا، فلا يمكن أن تتقدم القضية الفلسطينية وستبقى
تراوح مكانها، هذا إن لم تتراجع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق