تقلبت مبررات سلطة رام الله والناطقين باسمها بخصوص الاعتقال السياسي في الضفة الغربية على مدار السنوات، فبُعيد اتفاقية أوسلو كان المبرر هو احترام اتفاقية أوسلو وحماية أبناء حماس من الاحتلال الصهيوني، لأنه حسب الاتفاقية إذا لم تسجن السلطة الشخص المطلوب للاحتلال فيحق للاحتلال اعتقاله.
إلا أن الخطاب تغير بعد أحداث عام 2007م (أو ما يعرف بالحسم) وأصبح الكلام عن محاربة الإنقلابيين وحق السلطة بحماية نفسها من حركة حماس وعن الاعتقال على خلفية "مخالفات جنائية"، وبعد اضراب المعتقلين الستة عن الطعام واطلاق سراحهم ثم إعادة اعتقالهم على يد الصهاينة عادت السلطة لتتكلم عن الاعتقال من أجل الحماية من الصهاينة.
والسؤال المطروح هنا كيف اصبح الصهاينة خطراً يهدد المعتقلين؟ هل كانوا مطاردين وضاقت عليهم الأرض فاستضافتهم السلطة؟ أم أنها اعتقلتهم من بيوتهم وبعد التحقيق معهم ظهرت معلومات جعلتهم "مطلوبين" للاحتلال الصهيوني؟ وائل البيطار مثلاً متهم بالمشاركة في عملية ديمونا الاستشهادية، والسؤال لماذا تعتقل السلطة شخصاً بسبب دوره في عملية استشهادية؟
أسباب الاعتقال السياسي عند السلطة متنوعة، ومنها ما يتم بناء على طلب المخابرات الصهيونية لاعتقال أشخاص معينين (وهذا كان منتشراً بشكل أكبر قبل انتفاضة الأقصى)، ومنها ما يتم بناء على تحريات وتحقيقات وبمبادرة ذاتية من أجهزة السلطة الأمنية، والتحقيق والاعتقال في سجون السلطة يدوران حول خمسة محاور رئيسية:
أ. البحث عن سلاح المقاومة: ولا يقتصر البحث على سلاح القسام بل يشمل سلاح الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية (مثلاً القيادي في كتائب أبو علي مصطفى أحمد المشعطي معتقل منذ عدة شهور في سجن الجنيد)، كما يشمل ما لدى تجار السلاح خوفاً من انتقالها إلى المقاومة. وتطلق السلطة مسمى ملطف على نشاطها في هذا المجال وهو "محاربة الحيازة غير القانونية للسلاح".
والمعتقلين الذي تعتقلهم السلطة تحت هذا البند يصبحون هدفاً تلقائياً للاحتلال الصهيوني الذي يعتقلهم فور خروجهم من سجون السلطة.
ب. البحث عن مصادر تمويل حركة حماس: فالسلطة لديها قناعة أن قوة حماس تأتي من قوة مؤساستها المالية، وبدءًا من عام 2005م بدأ الاحتلال الصهيوني حملة شاملة ومتواصلة ضد المؤسسات المالية والخيرية التابعة لحماس، وبعد عام 2007م تولت السلطة هذا الدور حيث تعمل سلطة النقد بالتعاون مع البنوك من أجل تتبع مصادر وطرق التمويل المختلفة، في حين تتولى الأجهزة الأمنية دور تتبع الأفراد "المشتبه بهم".
تطلق السلطة على نشاطها في هذا المجال مسمى ملطفاً آخر وهو "محاربة غسيل الأموال"، بالرغم من أن أغلب المستهدفين لا يمكن إدانتهم بأي قانون أو شكل من الأشكال.
ج. الجهاز الاعلامي التابع لحماس: وهنا تلاحق المراسلين والأفراد المشتبه بتواصلهم مع الأجهزة الإعلامية التابعة لحركة حماس، وهذه الملاحقة كانت خجولة ومحدودة قبل عام 2007م إلا أنها أصبحت علنية بعد ذلك، لكنها تأتي في الدرجة الثالثة في سلم أولويات السلطة.
د. الاعتقال على خلفية الخلاف بين فتح وحماس: وهي اعتقالات انتقامية وبناءً على تقارير كيدية، وهي بمجملها اعتقالات موسمية (مثل اقتراب انطلاقة حماس)، وهي أسهل ملفات الاعتقال السياسي، ويمكن حلها فور التوقيع على أي مصالحة مرتقبة، على عكس القضايا الثلاث الأولى وخاصة ما يتعلق بسلاح المقاومة.
ومن يعتقل على خلفية الانقسام لا يكون اعتقاله عادةً لفترات طويلة، ولا يعتقله الصهاينة (في أغلب الأحيان) بعد خروجه من سجون السلطة، كما تلجأ السلطة إلى التعامل مع نشطاء حماس بسياسة الاستدعاءات بشكل واسع ضمن سياسة استنزافهم نفسياً وبدنياً. وحاولت السلطة طويلاً تصوير الاعتقالات السياسية على أنها تأتي فقط ضمن هذا الإطار، لتقول للعالم المشكلة ستحل مع توقيع المصالحة.
هـ. اعتقال الأسرى المحررين من سجون الاحتلال: ويدور التحقيق معهم حول نشاطهم داخل السجن وحول الأسرى الناشطين في قيادة حماس داخل سجون الاحتلال ومصادر تمويلهم، وحسب ما وصل من سجون الاحتلال فإن هذه المعلومات تمرر إلى سلطات الاحتلال والكثير من الأسرى يعيدهم الصهاينة إلى أقبية التحقيق بناء على هذه المعلومات أو يتم قمعهم وعزلهم بناءً عليها.
كما قد يتطرق التحقيق معهم حول الأمور التي لم يعترفوا بها عند المحققين الصهاينة، وهذا يعاني منه المعتقلون الإداريون أكثر شيء (الذين يسجنهم الاحتلال بدون تهم محددة).
ومن أمثلة التنسيق الأمني الواضحة بين المحتل الصهيوني والسلطة الفلسطينية هي جمعية فرح فرح الخيرية ومقرها رام الله، أصدرت سلطات الاحتلال قراراً بإغلاق الجمعية عام 2006م بتهمة علاقتها بحركة حماس، واعتقلت عدداً من أعضاء هيئتها الإدارية والعاملين فيها ومنهم الشيخ تيسير العاروري وزياد مشعل، وبعد الافراج عنهم قامت السلطة بحملة اعتقالات طالت أعضاء الهيئة الإدارية والموظفين فيها. وهم جميعاً محتجزون حتى اليوم بمبرر "تبييض الأموال لصالح حركة حماس".
نريد هنا مناقشة أول سببين للاعتقال: سلاح المقاومة وتمويل حماس، كونها قضايا ترتبط بعلاقة السلطة بالمحتل الصهيوني، ولما فيها من إساءة إلى السلطة نفسها ولحركة فتح، ولكونها العقبة أمام أي مصالحة فلسطينية، فالسلطة يمكن أن تتوقف عن اعتقال اعلاميي حركة حماس وستتوقف عن الاعتقالات الانتقامية والكيدية بعد أي مصالحة، لكن هل تستطيع وقف اعتقال النشطاء العسكريين دون الاخلال بالتزاماتها تجاه الاحتلال الصهيوني؟
السلطة تقول أنها تعتقلهم من أجل توفير الحماية لهم؟ وأن دخول السجن لدى السلطة سيكون أفضل للمعتقلين من دخول سجون الاحتلال، وكثيراً ما طرح مؤيدو فتح التساؤل التالي "أليس من الأفضل سجنهم في سجون السلطة عند أبناء شعبهم بدلاً من سجنهم عند أعدائهم الصهاينة"؟
لكن هل تستطيع السلطة ضمان الحماية لهم؟ وهل حقاً دخول سجون السلطة أفضل لهم من سجون الاحتلال؟ لو قدر لأحدكم مقابلة أحد المعتقلين السياسيين في سجون السلطة وسألتموه عما إذا كان يفضل الإفراج عنه ولو كان ذلك يعني احتمال اعتقاله من قبل المحتل الصهيوني أو البقاء مسجوناً لدى السلطة، لكان جوابه حاسماً بأنه لا يقبل بأقل من الافراج الفوري عنه.
ولماذا هذا الاصرار على الافراج عنهم بالرغم من خطر الاعتقال لدى الاحتلال:
1-لأن سجن السلطة ليس ضمانة لهم من الاعتقال على يد المحتل: هنالك تجربة خلية صوريف التي اختطف الاحتلال أفرادها أثناء قيام السلطة بنقلهم من سجن إلى آخر عام 1997م، وتجربة سجن بيتونيا عام 2002م حيث كان يسجن فيه عشرات المقاومين من كافة الفصائل بينهم قياديون بارزون في كتائب القسام وعلى رأسهم بلال البرغوثي وسليم حجة عندما حاصر جيش الاحتلال وقصفوه حتى أجبروا السلطة على تسليمها المقاومين.
وسجن أريحا حيث كان يقبع فيه أحمد سعدات وفؤاد الشوبكي ومقاومين من الجبهة الشعبية، حيث هاجمه جيش الاحتلال عام 2006م بنفس الطريقة واختطفوهم.
2-ما دام أن خروج المعتقل السياسي من سجون السلطة يعني أنه سيصبح مطلوباً للمحتل مهما قضى في مدة اعتقال، فهل الحل أن يبقى للأبد في سجن السلطة بحيث يخسر حياته وتتعطل أعماله وتعليمه؟ ما دام هنا سجن وهناك سجن لماذا تقبل السلطة على نفسها القيام بدور السجان؟
3- الظروف المعيشية في سجون السلطة ليست بأفضل من سجون الاحتلال عموماً، هنالك أمور معيشية هنا أفضل وأمور معيشية أخرى هناك أفضل، لكنها ليست فروقاً مهمة.
4- الاعتقال السياسي يورث كراهية وأحقاد متبادلة، مما يهدد الترابط الاجتماعي والسياسي الفلسطيني، ويهدد بحرف مسار المقاومة، والسؤال لماذا تقبل السلطة بالمخاطر الناجمة عن استمرار الاعتقالات السياسية؟ أليس من الأجدى أن تترك هذه الممارسات؟ لماذا تطلب السلطة من حماس أن تتحمل هذه الاعتقالات وتبعاتها باسم الوحدة الوطنية؟
ونتساءل في النهاية إذا كانت السلطة عاجزة عن حماية المواطن الفلسطيني أو حقوقه الوطنية، أيحق لها المطالبة بأن تكون الجهة الوحيدة المخولة بامتلاك السلاح؟ وكيف تطلب من حماس كشف حساباتها المالية علناً وهي لا تستطيع حمايتها من المحتل الصهيوني؟ هنا السلطة تضع نفسها في موقف الاتهام، وتعزز من مزاعم تنفيذها لأجندات صهيونية بحتة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق