ما زالت قضية الوثائق التي كشفتها الجزيرة تتفاعل دون أن تأخذ حظها من الدراسة والتحليل، كما ما زالت ردود الفعل تتوالى على الساحة الفلسطينية، وبشكل عام فما كشف عنه لم يكن مفاجئاً والكثير منه كان معروفاً بطريقة أو أخرى سواء من خلال تسريبات صحفية أو حتى عبر تصريحات رسمية لقادة السلطة ومفاوضيها.
مع ذلك ففي طيات هذه الوثائق وجدنا بعض التفاصيل الصغيرة والخطيرة التي تكشف مدى التنازلات العظيمة التي قدمتها السلطة على طبق من ذهب إلى الصهاينة، كان أبطالها بالدرجة الأولى صائب عريقات وياسر عبد ربه وأحمد قريع، وتعامل مسؤولي السلطة مع هذه الوثائق بقدر كبير من الارتباك بين تأكيد لصحتها والتوعد لمسربيها بالويل والثبور، وبين الزعم بأنه تم تحوير بعض ما جاء بها، وبين الاكتفاء بالتشكيك بوقتها وبدوافع من سربها.
ومثل كل مرة نؤكد أنه لا التوقيت ولا شخصية المسرب يهم ما دامت الوثائق صحيحة، ومن لا يريد أن يتكلم عنه الناس بسوء يجب أن لا يرتكب الجريمة عن سبق إصرار وترصد، أما أن يرتكب الموبقات السبع وبعدها يطلب من الناس التستر عليه فهذا ما لا يجوز ولا يقبله عاقل.
التنازلات ومعرفتنا بها ليست جديدة، والكثيرين لم يتفاجئوا ببساطة لأن هذا كلام نسمعه بطريقة أو بأخرى منذ أكثر من عشرين عاماً هو عمر التفاوض بين منظمة التحرير والكيان الصهيوني، والسؤال الذي يطرح نفسه على عريقات وعبد ربه وأحمد قريع ألم يئن الأوان لكي تتنحوا عن ملف المفاوضات بعد عشرين عاماً من الفشل المطلق!؟
صائب عريقات يطلق على نفسه كبير المفاوضين الفلسطينيين، وله كتاب "الحياة مفاوضات" حيث يظن أنه أبو التفاوض والمفاوضات والدبلوماسية، لكن ما الذي حققته تجربتك الطويلة يا عريقات؟ منذ أيام مؤتمر مدريد ما هي الأمور المفيدة التي حققتها للشعب الفلسطيني؟
عريقات يجيد افتعال المعارك الوهمية على قضايا لا تسمن ولا تغني من جوع، ففي أيام مؤتمر مدريد رفض الصهاينة دخول عريقات قاعة الاجتماعات وهو يضع دبوس العلم الفلسطيني على بدلته، وبدأت بعدها مفاوضات طويلة على باب القاعة سماها عريقات بـ "مفاوضات الكريدور"، ودار نقاش هل يدخل عريقات مع علم فلسطين أم لا يدخل، وفي النهاية توصلوا إلى أن يدخل عريقات ويخلع السترة بدلاً من خلع العلم وهكذا لا يضايق الصهاينة برؤية علم فلسطين ولا يتنازل هو ويخلع علم فلسطين. هذه حلول صائب عريقات الإبداعية!
البداية كانت مع أوسلو:
أما الأمور الجوهرية والمهمة فلم يحقق شيئاً لا هو ولا أحمد قريع ولا حسن عصفور ولا أي أحد من الذين احتكروا التفاوض باسم الشعب الفلسطيني طوال عشرين عاماً؛ فعلى سبيل المثال في رسائل الاعتراف المتبادل باتفاقية أوسلو وجه ياسر عرفات باسم منظمة التحرير رسالة جاء فيها: "تعترف منظمة التحرير بحق دولة إسرائيل في العيش في سلام وأمن جديد"، و"إن المنظمة تلزم نفسها بعملية السلام في الشرق الأوسط وبالحل السلمي للصراع بين الجانبين"، و"تعتبر المنظمة أن التوقيع على إعلان المبادئ ... يفتتح حقبة جديدة من التعايش السلمي والاستقرار.. حقبة خالية من العنف. وطبقاً لذلك فإن المنظمة تدين استخدام الإرهاب وأعمال العنف الأخرى".
وبالمقابل ما الذي حصلته المنظمة؟ هذه رسالة الاعتراف التي أرسلها اسحق رابين (كاملة): "رداً على خطابكم المؤرخ في 9 سبتمبر (أيلول) 1993، فإنني أحب أن أؤكد لكم، في ضوء التزامات منظمة التحرير الفلسطينية المتضمنة في خطابكم، فإن حكومة إسرائيل قررت الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل للشعب الفلسطيني، وستبدأ مفاوضات مع منظمة التحرير في إطار عملية السلام في الشرق الأوسط." لا يوجد اعتراف بدولة فلسطينية ولا اعتراف بمعاناة الشعب الفلسطيني، فقط اعتراف بتمثيل المنظمة للشعب الفلسطيني بشرط التزامها بما جاء في خطاب عرفات، في حين أن اعتراف عرفات بالكيان الصهيوني لم يكن مشروطاً.
وكما يقولون "المكتوب يقرأ من عنوانه"، وعصابة المقاطعة بدأوا عهدهم التفاوضي بالتفريط وتضييع حقوق الشعب الفلسطيني، وما رأيناه في وثائق الجزيرة ليس إلا استمراراً لتنازلات ولتفريط امتد عشرين عاماً، لكن اللافت في الأمر هو تدني سقف مطالب العصابة إلى درجة التماهي مع المطالب الصهيونية، وأحياناً لا تميز في الوثائق بين المتكلم هل هو من الطرف الصهيوني أم الفلسطيني.
عريقات وعصابة التفاوض أقنعوا حركة فتح بأنه يجب إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وأن فلسطين ضاع أغلبها ويجب تدارك الأمر وإنقاذ ما تبقى من الضفة الغربية وقطاع غزة، وكان أهم وعودهم هو وقف الاستيطان في الضفة والقطاع وكان هذا الكلام عام 1993م، ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم تضاعف عدد المستوطنين أربع مرات في الضفة الغربية وتضاعف حجم الاستيطان وعدد المستوطنات، ففشلوا بالوفاء بما وعدوا به (على ضعفه وهزاله أصلاً).
الإنجاز الوحيد الذي تحقق على مستوى الاستيطان هو تفكيك مستوطنات قطاع غزة عام 2005م، لكن هذا كان نتيجة لعمليات المقاومة الفلسطينية، وفي رأي البعض كانت مؤامرة من شارون من أجل فصل الضفة عن القطاع، وفي كلتا الحالتين لم يكن للمفاوض الفلسطيني أي فضل.
تنازلات جديدة:
لم يفشل عريقات بإنقاذ ما يمكن إنقاذه فحسب، بل نجده يتبرع للصهاينة بطريقة سخية، فوافق على التنازل عن أجزاء من الحي الأرمني بالبلدة القديمة ألم يكن بإمكانه القول بأن الأرمن فلسطينيون ولا يريدون العيش تحت الحكم الصهيوني؟ وتنازل عن ما يسمى بالحي اليهودي، ألم يعلم صائب عريقات أن الحي اليهودي لم يكن في يوم من الأيام يهودياً وأنه عبارة عن حيين إسلاميين (حارة الشرف وحارة المغاربة)، وأن الصهاينة قاموا بطرد سكانهما بعد حرب عام 1967م وهدموا منازلهم وأقاموا الحي اليهودي على أنقاضه؟ صائب عريقات تخلى عن لاجئي عام 1948م ويقول أنه يتمسك بأراضي عام 1967م فما به يفرط بحقوق أهل حارتي المغاربة والشرف وهم من لاجئي حرب عام 1967م؟
قيل الكثير بخصوص عدم عودة اللاجئين إلى قراهم ومدنهم التي هجروا منها، وتذرع المفاوض الفلسطيني بعدم واقعية هذا المطلب وإن كان منطقهم هذا غير مقبول لدى أكثرية الشعب الفلسطيني، إلا أنهم يفاجئونا بأنهم لم يكتفوا بإسقاط حق العودة بل قرروا أن اللاجئين لن يعودوا إلى الدولة الفلسطينية الموعودة في الضفة والقطاع، ويطمئن صائب عريقات الصهاينة بأن العودة إلى هذه الدولة لن تكون للجميع وأنها ستكون مرهونة بإمكانية استيعابهم بها. طيب ما دخل الصهاينة بمن يأتي إلى هذه الدولة؟ لو أردنا استقدام جميع اللاجئين الفلسطينيين وأعداد أخرى من العرب والمسلمين ومن كوريا ومن الهند والسند وأعطيناهم جنسية فلسطينية وأسكناهم بهذه الدولة، فما دخل الصهاينة بمن يأتي ومن لا يأتي؟
بأي حق يا صائب عريقات تسمح للصهاينة بالتدخل في من يعود إلى هذه الدولة الموعودة ومن لا يعود؟ هل هذه هي الدولة "المستقلة" التي تعدوننا بها؟ تنازلتم وقبلتم بدولة منزوعة السلاح حتى "يطمئن الصهاينة" والآن تسمحوا لهم بتحديد من يسكن في الضفة والقطاع ومن لا يسكن؟ وماذا بعد؟ هل سيضعون قيوداً على عدد الأطفال المسموح لكل أسرة فلسطينية أنجابهم؟
ما معنى أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني فيما يتخلى عريقات وعبد ربه وأحمد قريع وسلام فياض عن الشعب الفلسطيني في الشتات وداخل الخط الأخضر وتشطب فلسطينيتهم؟ لماذا هذا الإصرار على تمثيل ملايين الفلسطينيين إذا كنتم تضمرون التخلي عن كل حقوقهم؟ هذا لا يعني إلا شيئاً واحداً أنكم تريدون التجارة بمعاناتهم (وبأقبح معاني التجارة).
ويأتي عريقات بعدها وبكل وقاحة يقول "أنا لم أقل أني سأستثني اللاجئين في الشتات من الاستفتاء على حق العودة، بل نستثنيهم من الاستفتاء على الحل النهائي"! أليس حق العودة جزء من الحل النهائي! لو بقيت على اتهام الجزيرة لكان أشرف لك.
هذا فضلاً عن رفض الصهاينة و"الراعي الأمريكي" مناقشة قضية تعويض اللاجئين بأي شكل من الأشكال، وقبول ياسر عبد ربه بيهودية الكيان الصهيوني وقوله "لا نمانع بتسمية الكيان الصهيوني بالوطن القومي لليهود، لكن لا نريد قول ذلك على الملأ"، يهودية "إسرائيل" هي فكرة عنصرية مثلها مثل فكرة نقاء العرق الأبيض في جنوب أفريقيا ونقاء العرق الآري في ألمانيا النازية، وعبد ربه يعتبرها شيء عادي وطبيعي!
ولا ننسى التحريض على احتلال المنطقة الحدودية بين قطاع غزة ومصر والتي يسميها الصهاينة (محور فيلادلفيا)، أو المكالمة بين نصر يوسف وموفاز حيث كان يتآمرا لاغتيال الشهيد من كتائب الأقصى حسن المدهون (أو اعتقاله كما يزعم نصر يوسف، وكأن التآمر مع المحتل لاعتقال المقاومين ليس جريمة).
كما أظهر التدخل الصهيوني في اختيار مسؤولي الأجهزة الأمنية مدى "استقلالية القرار الفلسطيني" الذي يتبجح به عريقات وعبد ربه، فماذا بقي لتتفاوضوا عليه؟ إذا كان الصهاينة يملون عليكم من يكون مسؤولاً ومن لا يكون مسؤولاً، هل حقاً تملكون قراركم؟
جرباناكم عشرون عاماً فلم تحققوا شيء، سمعنا تصريحاتكم العلنية والآن نقرأ وثائقكم وحواراتكم في الغرف المغلقة فتأكدنا أنكم لم تحققوا للشعب الفلسطيني شيئاً سوى التنازلات المتراكمة دون أي انجاز حقيقي!
ما البديل؟
ونتساءل بأي حق يتحكم أربع أو خمس أشخاص، جاءوا إلى مناصبهم من خلال التعيين، ولم ينتخبهم أحد ليفاوض عن الشعب الفلسطيني (فياض وعريقات انتخبا كنواب عن أهل الضفة والقطاع وليس كمفاوضين عن كامل الشعب الفلسطيني)، وحتى حركة فتح ومنظمة التحرير لا يوجد لهم سلطة حقيقية على عملية التفاوض، وعبد ربه يصدر بيانات باسم اللجنة التنفيذية للمنظمة دون الرجوع إلى اللجنة (وجميع أعضاءها معينين بالمناسبة).
أيعقل أنه لا يوجد في حركة فتح سوى هؤلاء الأشخاص، ومع اعتراضي على التفاوض من حيث المبدأ، إلا أنه لا يمنع أن أتساءل لماذا يحتكر بضع أشخاص القرار الفلسطيني ولمدة عشرين عاماً متتالية؟ هنالك شخصيات داخل حركة فتح لو أرسلت إلى المفاوضات لكان أداءها أقل سوءاً مثل النائب حاتم عبد القادر، وهو لن يعيد حقوق الشعب الفلسطيني لكني متأكد أنه لن يظهر هذا القدر من التهافت لإرضاء الصهاينة.
أهل تونس أزاحوا بن علي وانتفضوا عليه لأنه احتكر القرار وتربع على كرسيه وتكلم باسم الشعب وبطش باسم الشعب وخنق الشعب باسم الشعب لأكثر من ثلاث وعشرون عاماً. آن الأوان أن تفهموا أن البقاء لله وحده. وآن الأوان لكل فصائل العمل الفلسطيني بما فيها حركة فتح أن تسحب التفويض من هذه الزمرة وأن يقال بكل صراحة ووضوح أنها لا تمثل الشعب الفلسطيني بأي حال من الأحوال. يعطيهم العافية "خبصوا" بما فيه الكفاية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق