قد يتساءل المرء بعد طرح وزير خارجية الكيان الصهيوني مقترح "الانفصال عن غزة" وتحويله إلى "كيان مستقل ومنفصل تماماً" عن سبب رفض حركة حماس لهذه الخطة، فأن ترفض السلطة فذلك أمر غير مستغرب نظراً لتمسكها بمسار التسوية السلمية وأن يكون أي انسحاب صهيوني هو جزء من تسوية شاملة يتم التوصل إليها، كما أن الانفصال الاقتصادي والسياسي عن الكيان ليس أولوية لدى السلطة.
لكن لماذا سارعت حماس لرفض الخطة والمبادرة؟ أليست هي من تنادي بفك الحصار عن قطاع غزة وأن يكون تعامل القطاع مع العالم الخارجي مباشرة وبدون تدخل الكيان الصهيوني؟ ألا تؤمن الحركة بالتحرر المرحلي وهذه فرصة لتحرير غزة بشكل كامل بعد أن كانت محررة بشكل جزئي بسبب الحصار الذي كان مفروضاً عليها طوال الوقت؟
من المفيد ابتداء التذكير بأن الصهاينة زعموا عقب انسحابهم من قطاع غزة وتفكيك المستوطنات عام 2005م بأنهم انهوا احتلالهم للقطاع وأنه لم يعد يربطهم أي رابط به، لتثبت الحوادث المتتالية أنهم ما زالوا يحاصرون القطاع وينتهكون حرمة أراضيه ومياهه وأجوائه بشكل روتيني ومستمر، وآخرها هو المنع المتتالي لسفن فك الحصار من الوصول إلى غزة عن طريق المياه الدولية.
والواقع أن حادثة الاعتداء على أسطول الحرية هي ما دفعت ليبرمان لطرح خطته هذه، فالدعاية الصهيونية كانت دوماً تردد بأن الصهاينة انسحبوا من قطاع غزة وليسوا مسؤولين عن معاناة أهله، لتأتي حادثة القرصنة البحرية لتثبت أن الاحتلال الصهيوني خرج من داخل قطاع غزة لكنه ما زال يحاصره، وأن تحرير القطاع الذي حصل عام 2005م هو تحرير جزئي وليس كاملاً.
فخطة ليبرمان هذه هي بمثابة اعتراف صريح من الصهاينة بأنهم ما زالوا يتدخلون بشؤون قطاع غزة وأنهم ما زالوا بحكم المحتلين للقطاع وإن كانوا خارج حدوده وإن كانوا قد فككوا المستوطنات، لكنها لا تعني بحال من الأحوال أنها مبادرة حقيقية لفك الارتباط بغزة أو فك الحصار عنه، هي فقط محاولة لنقل صلاحيات الاحتلال إلى جهة ثالثة تقوم بالمهمات القذرة نيابة عن الاحتلال.
ولاحظوا معنا ما جاء في الخطة جملة تحويل غزة إلى "كيان مستقل" وليس دولة مستقلة، ليس لأن ليبرمان حريص على عدم تجزئة الضفة والقطاع، بل لأنه وبكل بساطة لا يريدها أن تتمتع بالصلاحيات التي تمتلكها الدول المستقلة، يريد من الأوروبيين نشر قواتهم في غزة لحماية أمن الاحتلال، ويريد من الأوروبيين أن يزودوا القطاع بالوقود والكهرباء والمياه، وفوق كل شيء ضمان أمن الكيان الصهيوني.
وبما أن أمن الكيان الصهيوني هو ضمن أي ترتيب يطرحه الصهاينة فهذا يعني حقهم بالتدخل في شؤون قطاع غزة، لكن هذه المرة بطريقة غير مباشرة فيطلبون من وكيلهم في غزة (أي الأوروبيين) القيام بالخطوات اللازمة، ويمارسوا سياسة الإملاء، وكان قد سبق وأن طرحوا هذا المقترح على المصريين ورفضوه، والآن يعرضوه على الأوروبيين لدراسته (لاحظوا التناقض العجيب أصحاب الشأن أهل غزة لا يستشارون).
لذا كان من الطبيعي أن ترفض حماس أو غير حماس هذا العرض الصهيوني، لأنه لا يتضمن أي استقلال لغزة، بل مجرد تغيير لوجه السجان من صهيوني إلى أوروبي، ولأنه يشكل مخرجاً يخفف عن الكيان الصهيوني أزمته الدولية وصورته الاعلامية المتدهورة، دون أن يقدم أي شيء حقيقي للشعب الفلسطيني في نضاله من أجل تحرير أرضه المسلوبة واستعادة حقوقه المشروعة، بل يكبل الفلسطينيين باتفاقيات تشابه (أو حتى أسوأ من) اتفاقيات أوسلو.
يجب أن يكون الموقف هو الرفض التام لهذه الخطة وأشباهها، وإذا أراد الصهاينة فك الحصار أو الانسحاب أو رفع القيود التي يفرضونها على قطاع غزة فليذهبوا إلى الجحيم غير مأسوفٍ عليهم، ولن يبكي عليهم أحد ولن يترجاهم أحد ولن يأسف على مغادرتهم أحد، كما حصل عندما فككوا مستوطناتهم وخرجوا من غزة غير مأسوف عليهم.
لكن لا يأتوا ليطالبونا بالأثمان، ويحرم على حماس أو غير حماس أن تقبل دفع الأثمان للصهاينة، فعرضهم هذا يدل على أنهم في حرج وضيق بسبب الموقف الدولي الضاغط عليهم والمطالب برفع الحصار، وما دام الصهاينة بضيق وحرج فيجب التصعيد وتكثيف الحملات الدولية لرفع الحصار، ففي النهاية سيضطروا للخضوع ورفع الحصار دون قيد أو شرط، كما ننتظر من القوى الحية في الشعب المصري مواصلة ضغطها على النظام لكي يرفع الحصار من جهته، فللأسف ولحد اللحظة فالنظام يرفض رفع الحصار عن غزة معطياً الاحتلال ورقة مساومة، فلو رفع النظام المصري الحصار من جهته لن يجد الصهاينة أي أوراق ليساوموا بها.
أما تضمين ليبرمان خطته بنقاط براقة ومزركشة مثل الطلب من الأوروبيين إقامة محطات كهرباء وتحلية مياه في قطاع غزة، فهذه لا يجب أن تنطلي علينا، فأهل غزة يستطيعون إقامة هذه المشاريع بدون تمويل واشراف أوروبي هدفه جعل أهل غزة رهينة للتمويل الأوروبي وجعل هذه المشاريع أداة لابتزاز الشعب الفلسطيني: إما أن تتخلو عن حقوقكم التاريخية والسياسية أو سنقطع عنكم أموال الدعم والمشاريع. كل ما يحتاجه أهل غزة هو رفع الحصار الجائر ووقف العدوان المتواصل عليهم.
إذاً حركة حماس لا ترفض فك الحصار ولا ترفض توقف تدخل الاحتلال السافر في شؤون قطاع غزة، بل ترفض الابتزاز والمساومة وترفض خطة هدفها تجميل الاحتلال وتخليص المحتل الصهيوني من العبء الذي بات يمثله الحصار عليه، وتغيير وجوه السجانين. ليرفع ليبرمان حصار حكومته الظالم لغزة ولن يتأسف على ذهابهم أحد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق